📁 آخر الأخبار

مقومات الكتابة الفلسفية*: منهجية الإنشاء الفلسفي: صيغة السؤال الإشكالي المفتوح[1]

 




 

مقومات الكتابة الفلسفية*: منهجية الإنشاء الفلسفي: صيغة السؤال الإشكالي المفتوح[1]

 


بوبكر بوعزة



توطئة :

تتوخى هذه الورقة تذليل العقبات التي تواجه المتعلمين والمتعلمات، أثناء الاشتغال على منهجية الإنشاء الفلسفي عموما، والسؤال الإشكالي المفتوح خصوصا.

لا يخفى أن منهجية الإنشاء (المدرسي) تتألف من مقدمة وعرض وخاتمة، فما هي منهجية الإنشاء الفلسفي؟

صحيح أن منهجية الإنشاء الفلسفي تلتقي مع المنهجية السابقة في المراحل الثلاث، لكنّها تمتاز ببعض المميزات التي تخص التفكير الفلسفي؛ كحضور الحس التساؤلي، والبعد التحليلي، والبعد النقدي، والشك والمقارنة والتقابل ... وهو ما سنتناوله بشيء من التفصيل بغية تذليل العقبات، وإزالة الغموض الذي يحيط بالكتابة الفلسفية عموما.

قبل الشروع في تحرير الموضوع لابد من توافر الشروط الآتية:

- التعبير السليم على معنى الموضوع، فهذه القدرة تعني أن المتعلم قد فهم السؤال؛

- تنظيم الأفكار بشكل متسق ومنسجم بتوظيف حجج متدرجة، تتقدم وتتطور بتقدم مراحل التفكير. ويعني الاتساق قدرة المتعلم على تنظيم التفكير والمعلومات، والتحكم فيها بشكل جيد؛

- القدرة على استحضار المعرفة التي تغذي التفكير في معالجة هذا الإشكال، أي: ثقافته الفلسفية، والعامة.([2])

واستدعاء المتعلم لهذه المعارف، لا يعني جعل الفلاسفة يفكرون بدلا عنه من خلال استظهار أطروحاتهم وتصوراتهم، وكتابتها دون نقد، أو مقارنة... إنّ دور هذه المعلومات والمعارف هو إثراء التفكير الشخصي للمتعلم وإغناء إنشائه الفلسفي، الذي يقوم أساسا على جدلية التفكير مع الفلاسفة وضدهم، وليس تدوين أطروحاتهم، واستظهارها عن ظهر قلب. ويجب على المتعلم أن يعلم أن الأقوال والآراء الفلسفية ليست حقائق مطلقة منزهة عن النقد والدحض والمناقشة، بل إن اعتقاد المتعلم -باعتباره كاتبا للإنشاء- بأن ما قاله هذا الفيلسوف أو ذاك مقنع، هو الذي يدفعه إلى استحضار أقواله والاستشهاد بها، دعما لتحليله ومناقشته للإشكال المطروح.. وهذا ما يدل على حضور المجهود الشخصي والوعي النقدي في توظيف أطروحات الفلاسفة وأقوالهم.

إن الاستشهاد بهذا الفيلسوف أو ذاك بوصفه حجة، لن يفيد المتعلم في شيء، بل يجب عليه ألاّ يستحضر في إنشائه إلا ما يتماشى مع خطته الاستدلالية في معالجة الإشكال. من هنا فإن تكديس مواقف الفلاسفة ودعاواهم بدون مناسبة، لا يخدم الإنشاء الفلسفي في شيء، إذ العبرة بالكيف لا بالكم. إن استحضار موقف هذا الفيلسوف أو ذاك يجب أن يندرج ضمن الخيط الناظم للحجج، ويغنيها ويساهم في تقدمها.

                  I.            معطيات نظرية: هل هناك خطة جاهزة يستطيع المتعلم من خلالها كتابة إنشاء فلسفي جيد؟

ليست هناك خطة أو تصميم أو منهجية جاهزة على شكل قوالب فارغة، ما على المتعلم إلا أن يصُبَّ فيها معارفه لكي يحصل على نقطة جيدة في الامتحان، بل هناك فقط بعض المبادئ الضرورية التي تسمح له قبل كل شيء بفهم الإنشاء الفلسفي:

- على المتعلم أن يلتزم بمطلب السؤال، مع الحرص على تقديم جواب له في النهاية. وفي جوابه على السؤال، عليه أن يحرص على أن تكون إجابته متدرجة ومتطورة، بحيث تنطلق من البسيط لتصل إلى المعقد. فالنتيجة يجب أن تكون أقوى وأعقد من النقطة التي ننطلق منها في بداية التحليل.

- على المتعلم أن ينظم أفكاره، ويتحكم في مسار تفكيره، من حيث تطوره الجدلي والتدريجي، أو من حيث محتواه وأسسه.

إذا كان الإنشاء الفلسفي يهدف إلى إقناع القارئ/المصحح، فإن المتعلّم مطالب بأن يستدل ويحاجج، ويفسر، ويوضح لإثبات أطروحة أو دعواه، ويدحض ويفند في المقابل أطروحة أو دعوى مضادة، ويقارن ويقابل بين هذه الأطروحة وتلك. لذلك يمكننا تحديد بعض الجوانب الأساسية التي يجب على المتعلم أن يحترمها خلال صياغته لإنشائه الفلسفي:

1. تحديد شكل السؤال

على المتعلم فهم السؤال وإبراز شكله أولا، إذ للسؤال أشكال مختلفة([3]) (هناك السؤال الذي يبحث عن تعريف مفهوم ما، مثل: ما السعادة؟ ما الدولة؟ ما الشخص؟ ما العدالة؟ أو ما الحقيقة؟ ما المقصود بالهوية الشخصية؟ ... وهناك السؤال الذي يبحث عن العلاقة بين فكرتين، أو مفهومين، أو وجهتي نظر، مثل: "ما علاقة الأنا بالغير؟" "ما علاقة النظرية بالتجربة؟"، "هل يمكننا معرفة الغير انطلاقا من معرفة ذواتنا؟"...الخ.

ينبغي، إذن، الوقوف على شكل السؤال ومضمونه وقصديته بشكل واضح، بما يمكن المتعلم من اختيار التصميم الملائم لكل شكل من أشكال السؤال.

2. طرح الإشكال

بعد فهم المتعلم للموضوع وإبرازه شكل السؤال، عليه أن يطرح الإشكال الذي يعالجه السؤال قيد الإجابة. وللإشارة هناك أشكال منطقية كثيرة لصياغة الإشكال وبناء المفارقة.

لنأخذ هذا القول لنيتشه: "الحقيقة وهم"، هنا نجد مفارقة كيف تصير الحقيقة وهما، ونحن نعرف أن الحقيقة تعني من بين ما تعنيه الواقع، والوهم نقيض الواقع... الخ.

كذلك مسألة الهوية، تطرح مفارقة الثبات والتغير؛ فكيف نقول إنّ الهوية هي التطابق، وفي الآن نفسه نقول إنّ الشخص يتغير ويتبدل... أو أن نتحدث –في أمثلة أخرى- عن العنف المشروع والعنف غير المشروع؛ فكيف يمكن أن يكون العنف مشروعا وغير مشروع في الوقت ذاته... وعن مفارقة الدولة التي تطبق العنف لمحاربة العنف والقضاء عليه؛ فكيف يكون العنف وسيلة للقضاء على العنف... ونقول كذلك: "الشخص ذات حرة ومسؤولة"، وفي الوقت عينه نقول "إنّ الشخص كائن اجتماعي خاضع للأعراف والتقاليد والدين والجانب البيولوجي والسيكولوجي"... فكيف نجمع بين القول بالحرية، والقول بالخضوع .... إلخ.

3. وضع خطة للعمل

على المتعلم أن يضع خطة للعمل. فانطلاقا من شكل السؤال، عليه أن يعرف التصميم الذي سيتبعه في معالجة الإشكال، عبر رسم خطوطه العريضة في ورقة التسويد.

4. التحرير

بعد رسم الخطوط العريضة لإنشائه في المسوَّدَة، يبدأ المتعلم في تحرير إنشائه.

5. تركيب: منهجية الإنشاء الفلسفي

يركز مؤلفو كتاب: "منهجية الإنشاء الفلسفي"، وتحديدا في الفصل المتعلق بمنهجية السؤال الإشكالي المفتوح على ست خطوات أساسية عند تحليل السؤال، حيث يتطلب الأمر:

"1- فهم المطلوب من خلال تأمل أداة الاستفهام"، "2-فهم المطلوب من خلال رصد الموجهات" والمقصود بالموجهات تلك الكلمات التي تأتي أحيانا بعد أداة الاستفهام مثل يمكن، يجب، "هل يمكن معرفة الغير؟ هل يجب على الدولة ممارسة العنف للحد من العنف؟ فهذه الموجهات: "يمكن"، "يجب"... لها دور أساسي في فهم مطلب السؤال. "3-فهم المطلوب من خلال التفطن إلى قصدية السؤال ومسلماته"، "4-الحفر في دلالة المفاهيم" المكونة للسؤال، "5-إعادة صياغة السؤال والكشف عن رهاناته"، "6-استكشاف المعارف التي يحتمل أن تتلاءم وطبيعة الموضوع..."([4])

           II.            الخطوات العملية لكتابة إنشاء فلسفي: السؤال الإشكالي المفتوح مثالا 

ما المقصود بـــــ "السؤال الإشكالي المفتوح"؟

سميّ هذا السؤال بــــ "الإشكالي"، لأنه إذا كان السائل في هذا السؤال البسيطـ: "هل تعرف أين توجد المحطة؟" ينتظر منك فقط جوابا بنعم أو لا، فإنّه في السؤال الإشكالي لا يُنتظر من المتعلم الجواب بنعم أو لا، لأن السؤال يثير إشكالية يجب الكشف عنها والتعرف عليها والتعبير عنها، وإدراك أبعادها صريحة كانت أو مضمرة.

وسميّ بــ "المفتوح" لأنه مفتوح على كل الاحتمالات، عكس القولة أو النص اللذين يتقيد فيهما المتعلم بأطروحة محدّدة وينطلق منها وجوبا، فالسؤال المفتوح لا يُتقيّد فيه بنص أو قولة.

أية منهجية يتعين على المتعلم تتبعها لمعالجة السؤال الإشكالي المفتوح؟

1.      المقدمة:

تعتبر المقدمة خطوة مهمة في الكتابة الفلسفية، فهي الوجهة والخطة التي ترسُم المسار الصحيح لكاتب الإنشاء، لهذا يجب أن يوليها العناية اللازمة. ولكي تكون المقدمة في المستوى المطلوب يجب على المتعلم أن يحترم مواصفات المقدمة الفلسفية الممتازة؛ من أهم هذه المواصفات نجد التأطير النظري للإشكال (وهو عبارة عن تمهيد يؤطر به المتعلم القضية التي سيعالجها)(*)، أو بتعبير الأطر المرجعية: "إدراك مجال السؤال وموضوعه؛ ثم إبراز عناصر المفارقة أو التقابل[5].. وقد أشرنا، سلفا، إلى بعض الصيغ المنطقية لهذه المفارقة، حيث يقوم المتعلم بصياغة الطرح الإشكالي باعتباره عصب التفكير الفلسفي، وذلك بطرح الإشكال وتحديد مجاله وأبعاده وحدوده، ليدرك موضوع السؤال، ويبرز الإشكال المضمر فيه، ويحدد رهاناته وأسئلته الأساسية الموجهة للتحليل والمناقشة.

2.      العرض:

بعد التمهيد الجيد للموضوع والطرح الصحيح للإشكال، ينتقل المتعلم إلى العرض، وهو كما نعلم ينقسم إلى قسمين: قسم أول يُخصَّص للتحليل، وقسم ثان يُخصَّص للمناقشة.. لكن هل يصدق هذا التقسيم حين يتعلق الأمر بالسؤال الإشكالي المفتوح؟ هل فعلا عند تحليلنا للسؤال يجب التوقف عند لحظتَيْ التحليل والمناقشة كما هو الشأن مع القولة والنص؟

لنفترض أن لحظة العرض بالنسبة للسؤال الإشكالي المفتوح لا تخضع للتقسيم: تحليل- مناقشة، كما هو الشأن مع النص والقولة، فهل يعني هذا أن المتعلم عليه أن يبدأ تحليله بالجواب عن السؤال مباشرة!؟ والملاحظ فعلا أن العديد من المتعلمين يفضلون المرور من هذا الطريق السهل حيث يكتفون عادة باستظهار المواقف والتصورات الفلسفية المختلفة، وفي المقابل لا يعيرون مطلب التحليل أية أهمية، بل إنهم يقفزون عليه معتقدين أن استظهار مواقف الفلاسفة وأطروحاتهم هو الأهم، ومتناسيين أن المناقشة بدون تحليل لا قيمة لها، إذ هي تقليب واختبار ومحاكمة لما تم إخضاعه للتحليل المستفيض وليس لما تم استظهاره وترديده دون تحليل!!

إذا كان الأمر كما ذكرنا، فما هي الخطوات الأساسية التي ينبغي للمتعلم اتباعُها حتى يستقيم تحليله لمضمون السؤال؟

·         مطلب التحليل:

لنفترض أن مطلب التحليل موجود، من أجل فهم الإنشاء الفلسفي المتعلق بالسؤال الإشكالي المفتوح:

أول ما يجب على المتعلم فعله هو تحليل الإشكال المطروح بوضوح تام، وذلك عبر تحليل وتعريف أدوات وحروف الاستفهام، والموجهات، والمفاهيم، والألفاظ الواردة في السؤال حتى يتمكن من حصر مضمون السؤال وحدوده، ورهاناته، ومعرفة المطلوب منه([6]). بعد تحليل أدوات وحروف الاستفهام، يتم تحليل صيغة السؤال وتحديد مضمونه أي قضيته الأساسية.([7])

بعد الوقوف على أدوات وحروف الاستفهام، يجب التركيز على الموجهات التي توجهنا إلى المطلوب بشكل دقيق، كي لا نقع في المحظور من خلال الإجابة عما لم يطلب منا. وهنا ينبغي التأكيد على أهمية كلمات، من قبيل: يجب، يتأسس، يمكن ...الخ، التي ترد في السؤال.

بعد ذلك يجب على المتعلم تحليل مصطلحات ومفاهيم السؤال، بالوقوف على دلالاتها وتحديد العلاقات الرابطة بينها (بوصفها شبكة مفاهيمية)، واستحضار الدلالات التي تستدعيها، والدلالات التي تستبعدها؛ ففي تعريفه للمفاهيم يجب على المتعلم أن يقف على ما تدل عليه، وما تستدعيه، وما تستبعده حتى يستطيع الوقوف على المطلوب، وبالتالي معرفة الأجوبة المحتملة للسؤال.

من خلال تتبع الخطوات السابقة يستطيع المتعلم إدراك موضوع السؤال/المستفهَم عنه، وإدراك شكله، لما لهذا الإدراك من قيمة في اختياره التصميم الملائم لمعالجته، لأنه -كما سبق وأكدنا- توجد أشكال عدة للسؤال الفلسفي، فهناك أسئلة تطلُب من المتعلم الوقوف على دلالة مفهوم من المفاهيم، وأسئلة تطلب منه الوقوف على حدود تصور، أو قول، أو أطروحة، أو مفهوم... وأسئلة تستفسر عن علاقة شيء بشيء آخر، أو تستفسر عن قيمة شيء، أو مشروعيته... إلخ.

بعد التزامه بهذه الخطوات وإدراكه للمستفهَم عنه، يستطيع المتعلم أن يقف عند المعارف الملائمة الكفيلة بالإجابة عن السؤال الذي هو بصدد تحليله ومناقشته. حيث يسهل عليه توظيف المعرفة الفلسفية والعلمية والأدبية... أي كل المعارف والمفاهيم والحجج الملائمة للجواب على السؤال، حيث يجب أن يبني هذه المعرفة بناءً حجاجيا متماسكا، وليس مجرد حشد لمعارف وأقوال فلسفية ...

·         مطلب المناقشة:

 قلنا أن التلميذ مطالب بمناقشة الأطروحة أو الأطروحات المفترضة في السؤال، إن كان السؤال يفترض أطروحة طبعا، ومع ذلك لابد أن يكون للسؤال مطلبا حتى ولو لم يكن يحمل أطروحة مفترضة، كما سنأتي على ذكر ذلك، والمناقشة وإن كانت تطلب استحضار المعارف والأطروحات النقيضة للأطروحة المفترضة، فإننا عندما نتحدث عن المعارف لا نقصد بها الملخصات الجاهزة التي حفظها المتعلم عن ظهر قلب، بل نقصد كل ما يمكنه أن يسهم في تقديم جواب للسؤال، سواء تعلق الأمر بأفكار فلاسفة أو علماء أو غيرهم أو بأمثلة ومعارف مستمدة من مصادر المعرفة الورقية أو الإلكترونية، أو من الواقع. فالفلسفة التي لا تحاكم الواقع الذي يعيشه المتعلم، ولا تحاكم تمثلاته وتصوراته، ولا يحضر فيها "أنا" المتعلم كفاعل أساسي وباحث حقيقي عن الجواب/الأجوبة، دون الحاجة إلى الاختباء والتواري خلف أطروحات الفلاسفة... ليست بفلسفة.

إن تواري المتعلم واختفاءه وراء: قال فُلان...، وذَكَرَ عِلاّن ...(*)، هو أمر لا صلة له بالكتابة الفلسفية لا من قريب ولا من بعيد، لأن المطلوب من المتعلم هو تقديم جواب عن السؤال من خلال واقعه المعيش، ومعارفه وتجاربه وثقافته الفلسفية والعامة، ومن خلال توظيف أقوال الفلاسفة وتصوراتهم ومعارفهم كلما اقتضت الضرورة ذلك، من أجل الاستدلال على ما يقوله، وإغناء النقاش حوله. وهنا يمكن أن نفهم ما تصرح به الأطر المرجعية بالقول:"طرح إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال ..."[8]، وذلك عبر الانفتاح على كل ما يمكنه أن يساهم في حل الإشكال وتقديم رؤية أو رؤى متعددة حول، من معارف فلسفية وعلمية وفنية وأدبية ....

قبل الحديث عن مطلب التركيب لابد من الوقوف على تصميم من بين التصاميم المتعددة لمقاربة السؤال وهو التصميم السجالي أو الجدلي (رغم أن البعض يفصل بينهما).

نموذج آخر للسؤال الإشكالي المفتوح:

سبق أن قلنا إن كل إنشاء فلسفي يتطلب تحليلا ومناقشة، لكن ماذا لو كان السؤال لا يفترض أطروحة كما هو الشأن مع سؤال: لم الدولة؟ فماذا سأحلل؟ وماذا سأناقش؟ ما دام التحليل والمناقشة ينصبان على أطروحة ما!

لتجاوز هذا الأمر نجد بعض التصاميم (المنهجية) لمعالجة السؤال الإشكالي المفتوح([9])؛

أولها: التصميم الجدلي أو السجالي: هذا التصميم نصادفه كثيرا في نصوص الفلاسفة الذين درسناهم، فمثلا نجد نصا لكلود ليفي ستروس ضمن كتاب "في رحاب الفلسفة"، بعنوان "الإنسان كائن لغوي"([10])، ينطلق من الأطروحة القائلة بأن الذي يجعل من الإنسان كائنا ثقافيا هو قدرته على صناعة الأشياء، بعدها يعمل على دحض هذه الأطروحة ويبسط أطروحته القائلة بأن ما يجعل من الإنسان كائنا ثقافيا هو امتلاكه للغة منطوقة متمفصلة وليس قدرته على صناعة الأدوات.

يمكن للمتعلم أن يوظف هذه المنهجية في كتابة إنشائه الفلسفي، وذلك من خلال الانطلاق من وجهة نظر أو دعوى أو تصور معين وبسطه وتحليله ثم العمل على دحضه وتفنيده ومعارضته بتصور آخر أو دعوى معارضة... وهكذا دواليك، لكن عليه دائما بذل مجهود شخصي في التحليل والمقارنة والدحض والمناقشة، لتجنب معارضة فيلسوف بآخر بطريقة ميكانيكية، تحضر فيها الذاكرة فقط، ويستقيل فيها العقل النقدي.

إذا طبقنا هذا التصميم عند اشتغالنا على سؤال: هل الشخص حرٌّ في اختياراته وفاعلٌ وفق مشيئـة؟ فإننا، بعد تعريفنا لأداة الاستفهام والموجه ومفاهيم ومصطلحات السؤال والتعرف على قصديته، نبدأ في شرح وتحليل الدعوى القائلة بأن الشخص حر في اختياراته، فاعل وفق مشيئته، قادر على بناء ذاته بذاته وفق إرادته... بعد بسط هذه الأطروحة ينتقل المتعلم لمحاولة تنسيب (النسبية) هذه الدعوى، بالقول بأن الشخص ليس حرا حرية مطلقة في اختياراته، وليست له القدرة على بناء ذاته بذاته بفضل حريته في الفعل والسلوك والتصرف، وذلك بواسطة دعاوى وتصورات ترى بأن الشخص خاضع لجملة من الإكراهات منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو بيولوجي وراثي، ومنها ما هو سيكولوجي...

ولا ينبغي –كما سبقت الإشارة- أن تُستظهر هذه الدعاوى والمواقف عن ظهر قلب، بل يجب أن يحضر المجهود الشخصي للمتعلم وأن تحضر المواقف والمعارف الفلسفية في سياق الاستشهاد وبناء الحجج فقط. وهو مطالب بعد هذا بتوظيف أمثلة من الواقع المعيش، ما دام يعيش داخل مجتمع له عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات يخضع لها ويحترمها، ويعيش داخل دولة لها قوانين ملزمة، وله جانب نفسي يخضع لحتمية اللاشعور كما يقول بذلك المحللون النفسيون، وجانب بيولوجي وراثي لا دخل للفرد فيه...

بعد الانتهاء من التحليل يجب أن نوجه تساؤلات تقويمية للأطروحة التي انتهينا من تحليلها بهدف وضعها على طاولة النقد والمساءلة والشك، وفتح آفاق أخرى لمعالجة الإشكال الذي تم تحليله وتبيان أبعاده عبر تحديد قيمته وحدوده ورهانه، مثلا: إذا كنا قد حللنا الأطروحة القائلة بأن الشخص حر في اختياراته، يمكن أن نطرح التساؤلات التقويمية التالية: إلى أي حد يعتبر الشخص حرا حرية مطلقة في الفعل والتصرف؟ بأي معنى يعتبر الشخص حُرًّا في اختياراته؟ هل هذا يعني أن الشخص يمتلك حرية مطلقة في الاختيار أم أن حريته محدودة ومقيدة؟ ألا يمكن القول إنّ الانسان خاضع لإكراه المجتمع والعادات والتقاليد والأعراف؟ بعد ذلك على المتعلم أن يسلط الضوء على الهفوات التي تعتري التصور الأول ونواقصه باستدعاء المعارف، والأفكار، والأمثلة، سواء من الواقع الذي يعيشه أو مما قرأه، مبينا أن الشخص خاضع للإكراه وأن الحرية ليست سوى وهم، مستشهدا بتصورات فلسفية أو علمية مشفوعة بالحجج.

ويمكن أن ينفتح المتعلم على دعاوى وسطية تجمع بين تصورات القائلين بأن الشخص حر حرية مطلقة في اختياراته، فاعل وفق مشيئته، والدعاوى القائلة بأن الشخص خاضع لجملة من الإكراهات الاجتماعية والدينية والنفسية والطبيعية التي تسلبه حريته وتفقده كينونته وتجعله مثل الآلة، وهي تلك الدعوى القائلة بأن الشخص حر في اختياراته، لكن حريته مقيدة وليست مطلقة، مع تدعيم كلامه بححج تؤكد ما يقول.

·         مطلب التركيب:

غالبا ما يتعاطى المتعلم مع هذه اللحظة، وكأنها تلخيص لما سبق ذكره في العرض، فتأتي صياغته على شاكلة: إذا كان الفيلسوف "س" قد ذهب إلى القول... فإن "ج" ذهب إلى... صحيح أن الخاتمة هي استخلاص لما سبق تحليله ومناقشته، كما جاء في الأطر المرجعية، لكن هذا لا يعني إعادة ترديد أطروحات الفلاسفة ومواقفهم فقط، بل يجب استخلاص النتائج المتوصل إليها.

إن أهم ما ينبغي أن يميز التركيب هو كونه كلمة فصل في الموضوع (لا يجب أخذ كلمة فصل بمعناها الدقيق أي تقديم جواب ننهي به النقاش ونقطع دابر الاختلاف، بل يجب أخذها بمعنى نسبي يدل على تقديم جوابك النهائي للإشكال أنت كاتب الإنشاء)، أي طريقة للانتهاء من معالجة السؤال قيد التحليل والمناقشة، ولا يمكن قد أنتهي من القول في السؤال إلا إذا كنت قد قدمت له جوابا. لهذا يجب أن يكون التركيب جديدا كل الجدة، وأن يكون بمثابة جواب صريح عن السؤال المطروح أو عن الإشكال الرئيس. فالتركيب يؤطره السؤال التالي: ماذا أستنتج (باعتباري كاتبا للإنشاء)؟ مع إبداء الرأي الشخصي (رغم أن الإنشاء الفلسفي كله رأي شخصي والمواقف الفلسفية ليست إلا استشهادات) مدعوما بالحجج التي تثبت وجاهته، مع إمكانية الختم بسؤال مفتوح يبين حدود ما تم قوله، ويفتح الإشكال على آفاق جديدة.

يمكن أن يستفيد كاتب الإنشاء الفلسفي من قواعد المنهج الديكارتي: 1-الوضوح والبداهة، 2-التحليل أو التقسيم، 3- التركيب، 4- الإحصاء والمراجعة([11]). في هذه الحالة يستفيد من القاعدة الثالثة من خلال الالتزام في تحليله بالانطلاق من البسيط ثم المركب ثم المعقد بطريقة متدرجة في الصعود حتى يصل أخيرا إلى الجواب الأكثر دقة وقوة، بمعنى أن الدعوى التي يجب أن يختم بها إنشاءه هي الدعوى التي تتجاوز نواقص وهفوات كل الدعاوى السابقة.

       الأستاذ: بوعزة بوبكر، أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي، مولاي ادريس زرهون.

لائحة المصادر والمراجع:

1.    ينظر: شفيق اكريكر ومحمد بوتنبات ومحمد الخلوفي: "منهجية الإنشاء الفلسفي" أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 2014، ص:171-210.

2.    الأطر المرجعية المحينة لمواد الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا -2014- الإطار المرجعي لمادة الفلسفة، جميع المسالك.

3.    "في رحاب الفلسفة" للجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي،

4.    التجانية فرتات، فؤاد الصفا، الحسين سحبان، عناصر الكتابة الفلسفية، الإنشاء الفلسفي في الباكالوريا، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر بنميد، الدار البيضاء الطبعة الأولى 1407-1987.

5.    ذ. عبد المجيد الانتصار، أهيء امتحاني في مادة الفلسفة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء الطبعة الأول 2005-2006.

6.    Méthode de la dissertation en philosophie terminales L/ES/S. p. Serange / J.J. Marimbert -2009. http://www.coursexercices.com.

7.    https://www.scribbr.fr/dissertation-fr/plan-de-dissertation.

8.    René Descartes, Discours de la méthode, suivi des méditations, présentation et annotation par François Mizrachi, éditions Montaigne, 1951,

 



*   بوبكر بوعزة، أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بمديرية مكناس، وطالب باحث بسلك الدكتوراه، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس.

[1]  - نشرت هذه الورقة أول مرة بالعدد الأول للمجلة الإلكترونية "مدرسة الوطن" ب 29 يونيو 2020، (www.madrasatalwatane.com) لكن المجلة لم يكتب لها الاستمرار ولم يعد له وجود على النت. ونظرا لما يعانيه التلاميذ فيما يتعلق بالإنشاء الفلسفي، وتوخيا لتحقيق تراكم مفيد في الكتابة الإنشائية أردت إعادة نشرها من جديد.

[2]- méthode de la dissertation en philosophie terminales L/ES/S. p. Serange / J.J. Marimbert -2009. http://www.coursexercices.com.

[3]- méthode de la dissertation en philosophie terminales L/ES/S. p. Serange / J.J. Marimbert -2009. http://www.coursexercices.com.

[4] - ينظر: شفيق اكريكر ومحمد بوتنبات ومحمد الخلوفي: "منهجية الإنشاء الفلسفي" أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 2014، ص:171-210.

- بتحديد المجزوءة أو المجزوءات، والمفهوم أو المفاهيم التي يندرج ضمنها مضمون السؤال إن كان الأمر ضروريا كما هو الشأن في الأسئلة المركبة التي تتضمن أكثر من مجزوءة، أو أكثر من مفهوم.  *

[5]  - أنظر الأطر المرجعية المحينة لمواد الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا -2014- الإطار المرجعي لمادة الفلسفة، جميع المسالك.

[6]- مثلا: معرفة أدوات وحروف الاستفهام: هل، وكيف، وماهي، ولماذا، وإلى أي حد... حتى يستطيع فهم المطلوب منه. (انظر، شفيق اكريكر- محمد بوتنبات- محمد الخلوفي:"منهجية الإنشاء الفلسفي" أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 2014، ص-ص: 180-181).

[7]- هناك أسئلة تسمح للتلميذ بالتعرف على المطلوب بسهولة، كما هو الشأن مع السؤال الآتي: هل الإنسان حر في اختياراته؟ حيث يلجأ التلميذ إلى تقنية بسيطة لتحديد القضية التي يتناولها هذا السؤال وتحديد مطلبه، بإزالة أداة وعلامة الاستفهام يبرز له المستفهم عنه، بالتشطيب على أداة الاستفهام "هل"، وعلامة الاستفهام (؟) وتبقى العبارة أو المستفهم عنه: الإنسان حر في اختياراته. وهذا يُسهّل على التلميذ توفير المفاهيم والمعلومات والمعارف والأمثلة والاستشهادات التي سيحلل بها هذه الدعوى، وتحديد الأطروحات الأخرى المعارضة وكذا الأطروحات الوسطية. فإذا كان الإنسان حرا في اختياراته فهذا يعني أن الأطروحة المعارضة هي تلك القائلة بأن الإنسان غير حر في اختياراته. والأطروحة الوسطية هي التي تقول بأن الإنسان حر لكن حريته مقيدة. هكذا نكون قد رسمنا تصورا واضحا عن موضوعنا، ونكون قد تحكمنا في مادتنا المعرفية تمام التحكم. لكن هذه التقنية لا تصلح لجميع الأسئلة، فمثلا إذا أخذنا سؤال: لم الدولة؟ وأزلنا منه أداة الاستفهام "لم" وعلامة الاستفهام "؟" تبقى كلمة "الدولة"، وبالتالي ليست هناك أطروحة في هذا السؤال، وفي مجموعة من الأسئلة على شاكلته. إذن في هذه الحالة تصبح أداة الاستفهام "لم" هي التي تحدد المطلوب، وليس مفهوم "الدولة". يتبين من هذا المثال أن المتعلم مطالب بالوقوف، بالضرورة، على أداة أو حرف الاستفهام، قصد فهم المطلوب... وهو ما تبين من المثال السابق، فبدون الاهتمام بأداة الاستفهام "لم" لن يتمكن التلميذ من فهم قصدية، ومضمون، وقضية، وإشكالية هذا السؤال التي يتساءل عن الغاية من وجود الدولة.

*- من خلال تجربتي الشخصية في تصحيح الامتحانات أصادف أحيانا في الامتحانات الوطنية أعمالا لتلاميذ يقتصرون على ذكر مواقف الفلاسفة دون تحليلها، ومناقشتها، وفي غياب أي أثر للمقارنة، والنقد... حيث ينطلقون، وبدون مقدمات، من عرض مواقف الفلاسفة على هذه الشاكلة: موقف ديكارت: يقول ديكارت... وعندما ينتهي من استظهاره يعود إلى السطر ويكتب: موقف كانط: يقول كانط... وهي طريقة لا صلة لها بالإنشاء الفلسفي، لأن الإنشاء بناء، والبناء هو تشكيل وتركيب وربط...الخ. فلا يمكن لبنّاءٍ، يشيد منزلا، أن يضع الطوب الواحد تلو الأخر دون تشكيله، وربطه، واستعمال مواد أخرى تجعل البناء أكثر تماسكا وانسجاما، وإلا سقط بشكل سريع.

 

[8]  - أنظر الأطر المرجعية المحينة لمواد الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا -2014- الإطار المرجعي لمادة الفلسفة، جميع المسالك.

[9] - https://www.scribbr.fr/dissertation-fr/plan-de-dissertation.

انظر كذلك، "منهجية الإنشاء الفلسفي" مرجع سبق ذكره، ص-ص:199-208.

[10]- "في رحاب الفلسفة" للجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي، المحور الثاني: "الإنسان كائن ثقافي"، نص: "الإنسان كائن لغوي"، ص:84.

[11]- Voir René Descartes, Discours de la méthode, suivi des méditations, présentation et annotation par François Mizrachi, éditions Montaigne, 1951, p-p: 37-38.

 11 – يمكن مطالعة كتاب: شفيق اكريكر- محمد بوتنبات- محمد الخلوفي، منهجية الإنشاء الفلسفي، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 2014. كتاب مهم جدا، وغني بالمعلومات حول منهجيات النص، والسؤال، والقولة.

12 –ممكن مطالعة: التجانية فرتات، فؤاد الصفا، الحسين سحبان، عناصر الكتابة الفلسفية، الإنشاء الفلسفي في الباكالوريا، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر بنميد، الدار البيضاء الطبعة الأولى 1407-1987.

13 – كتاب: ذ. عبد المجيد الانتصار، أهيء امتحاني في مادة الفلسفة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء الطبعة الأول 2005-2006. إلخ.


د. الحسن اللحية
د. الحسن اللحية
الحسن اللحية هو أستاذ علوم التربية ومناهج البحث، وكاتب وباحث ومترجم من المغرب. له إسهامات عديدة في المجال التربوي والفكري من خلال مؤلفاته التي تعالج قضايا التعليم والسياسة والثقافة. من بين أبرز أعماله: "مدخل إلى قراءة ماكيافللي"، "نهاية المدرسة"، "المدرسة والمقاولة"، "السياسة والخيال"، وسلسلة "بيداغوجيات"، بالإضافة إلى "معجم التربية والتكوين".... تعكس أعماله رؤيته النقدية والتحليلية للمجتمع والتربية، مما يجعله من الشخصيات المؤثرة في الفكر التربوي العربي.