📁 آخر الأخبار

هل ديداكتيك الفلسفة ممكن؟

 


هل ديدكتيك الفلسفة ممكن؟

ترجمة: عبد العزيز سيعود 

تقديم:

ارتأينا ترجمة هذا المقال لأنه يثير عددا من القضايا المهمة في حقل " ديدكتيك الفلسفة "، خصوصا وأن هذا التعبير يبدو بديهيا في مجال تدريس المادة والتكوين فيها؛ غير أن هذا المقال يسائل هذه البداهة، ويبين مزالق إسقاط المفاهيم المبنية في حقل ديداكتيك المواد على مادة الفلسفة، ويقترح في النهاية شروط إمكان " ديدكتيك للفلسفة " يراعي خصوصيتها، غير أن فائدته لا تقف عند هذا الحد، فهو يلامس قضايا أخرى مباشرة تتصل بتدريس الفلسفة في المستويات السابقة على البكالوريا، بل وتدريس الفلسفة للأطفال عموما، كما يلامس قضايا أخرى غير مباشرة تتصل بالجانب البيداغوجي في تدريس الفسلفة. يبني المقال موقفه من خلال مناقشة م. طوزي ومعاونيه الذين كرسوا جهودا لتأسيس هذا الديدكتيك.

·         التعابير الموضوعة بين معقوفين هي من وضع المترجم، وتستهدف الزيادة في التوضيح أحيانا، والحفاظ على الوحدة المعنوية للفقرة تيسيرا للقراءة أحيانا أخرى.

النص:

يعتبر ديدكتيك الفلسفة، حسب تعبير أولئك الذين يكرسون جهودهم اليوم للعمل على إيجاده، بمثابة " النبراس الأحمر للبحث في الديدكتيك "1. وبالفعل، فقد ظل وحده تقريبا، من بين جميع المواد المدرسة بالإعدادي والثانوي على مسافة من الأعمال المنجزة في هذا المجال منذ خمس عشرة سنة. ويمكن بدون شك، فهم هذه المسافة من خلال إثارة أسبابها: إن تدريس الفلسفة في نهاية التعليم الثانوي الفرنسي جعلها مفصولة عن البحث الذي يتطور في مستويات وفي بلدان عدة، يضاف إلى ذلك التمثلات الخاطئة لمعظم أساتذة الفلسفة حول ميدانهم الخاص وحول تدريسه. ومع ذلك، فمادام الأمر يتعلق بالفلسفة حقا، فمن المباح إيثار البحث في الدواعي بدلا من البحث في الأسباب. ومادامت الفلسفة تبدو من منظور الديدكتيكات ما كانت تبدو عليه الميتافيزيقا من منظور العلوم، حسب كانت، فقد يكون الوقت حان لطرح السؤال الافتتاحي الذي طرحه كانط حول الميتافيزيقا على الفلسفة ذاتها، أي التساؤل عما إن كانت الفلسفة ممكنة بوصفها ديدكتيكا أو بتعبير أفضل، التساؤل عما إن كان ديدكتيك الفلسفة ممكنا.

لمعرفة ما إن كان ديدكتيك الفلسفة ممكنا، يتعين قبل كل شيء معرفة ما هو الديدكتيك وما هي الفلسفة. حول النقطة الأولى لا يبدو حصول اتفاق بالغ الصعوبة: فمعجم روبير الصغير الذي لم يدرج اسم " ديدكتيك " إلا في وقت متأخر جدا، يكتفي بأن يجعل منه " نظرية للتدريس ومنهجية له "، ويبدو أن التعريفات المقدمة من قبل الباحثين والمنظرين تتقاطع حول ذلك. ويشير ف. ميريو Philippe Meirieu إلى " المشروع الديدكتيكي للعمل على تسهيل التلقين المحدد localisée لمعارف محددة "2، في حين يميز لورانس كورنو Laurence Cornu وألان فيرنيو Alain Vergnioux بين الديدكتيك والبيداغوجيا، ويوردان بأن " الديدكتيكات هي فن أو طريقة تدريس المفاهيم الخاصة بكل مادة دراسية "3 ويردان الهم الديدكتيكي إلى هم " الانشغال العلمي بتدريس معرفة معينة بكيفية صحيحة وأمينة أي حسب الممارسة الخاصة بها "4. سنسلم إذن بأن الديدكتيك هو فن أو منهج (يظل هذا الفصل في حاجة إلى توضيح) تلقين معرفة محددة بحسب النظام أو المنطق المرتبط بطبيعتها الخاصة والمستمد من خصوصيتها.

إذا كان الديدكتيك هو فن تلقين معرفة محددة، فليس هناك ديدكتيك إلا حيث توجد معارف محددة يتعين تلقينها، وهكذا تفترض إمكانية ديدكتيك للفلسفة وجود معرفة فلسفية محددة. لذلك يتعين علينا أولا تحليل مفهوم الفلسفة لإقرار ما إن كانت معرفة بمعنى من المعاني، وما يشكل خصوصية هذه المعرفة؛ ويتعين علينا ثانيا مواجهة هذه الخصوصية بالقضايا التي يطرحها المختصون بديدكتيك الفلسفة للتحقق من مطابقتها للفلسفة؛ ويتعين علينا أخيرا أن نبذل جهدا لتحديد شروط إمكان ديداكتيك للفلسفة بكيفية إيجابية.

      I.            الفلسفة والمعرفة

ما ليست الفلسفة إياه

إن لفظ الفلسفة، كما يعرف كل واحد، يعني من الناحية الاشتقاقية محبة المعرفة. وذكرى هذا الأصل قد تكون كافية لوحدها للفت الانتباه إلى مفارقة ديداكتيك للفلسفة: فإذا كانت خاصية كل معرفة هو أن تكون قابلة للتلقين عن طريق التعليم 5، فهل يمكن، على العكس من ذلك، تصور منهج يسمح في كل مرة بتلقين المحبة، والرغبة، والبحث، أي تلقين النقص بأحد معانيه على الأقل؟ وبدون شك، فإن أصل اللفظ لا يخبرنا بكل شيء عن طبيعة الشيء، ولتسليط الضوء عليه سيكون أفلاطون أكثر عونا لنا من فيتاغورس. فإذا كان هذا الأخير على حق ضد الدوغمائيين حين علمنا بأن الفلسفة ليست سوى بحث، فإن أفلاطون علمنا ضدا على الشكيين بأن المعرفة هي التي يتعين البحث عنها وطرح الرأي جانبا. وهكذا يشهد تاريخ ميلادها على ماهيتها: ولدت من رفض تعدد الآراء الذي يشكل العارض موضوعه، والمنفعة جذره، والتقلب l'inconstance والتناقض l'inconsistance مصيره، فالفلسفة سعي نحو معرفة واحدة، ثابتة، موضوعية، مبنية على العقل، وبالتالي كونية. وبهذا المعنى فهي علم، إبستيمي  épistémè وليست رأيا doxa. ومن المحتمل أن تكون الفلسفة مادة دراسية كشأن باقي المواد الدراسية، ولكن هل هي علم من بين العلوم؟ تتميز العلوم الأخرى عن بعضها البعض بموضوعها وبمنهجها. يتميز بعضها بمنهجه الفرضي الاستنتاجي، وبمنهجها التجريبي بالنسبة لبعضها الثاني، وبالنقد الوثائقي بالنسبة لبعضها الثالث. ولا تندرج الفلسفة، كما هو بين، في أي من هذه الأصناف. ليس بالطبع لأنها لا تقوم على منهج، ولكن في حين يعتمد كل الفيزيائيين على المنهج التجريبي، وكل المؤرخين على نقد الوثائق، فإنه لا يمكن أن نجعل من المنهج النقدي أو المنهج الديالكتيكي أو المنهج البرهاني الرياضي"demonstratio ordine geometrico"  منهجا يمكن أن يعد هو منهج الفلسفة بدعوى أن كل الفلاسفة استعملوه.

تتحدد العلوم أيضا بموضوعها. فهي " جهوية "régionales  بمعنى أنها تقوم بتقطيع جهة من الواقع الذي تحدد ضمنه بحوثها، فهي تدرس العدد أو الشكل الهندسي وليس بنية المادة أو حركاتها، تدرس الكائن الحي وليس الوقائع التاريخية أو الاقتصادية. وهذا التحديد الدقيق لموضوعها هو بالضبط الذي سمح تاريخيا لمختلف المعارف المنحدرة من الفلسفة بأن تتكون كعلوم بالمعنى الحديث للكلمة. ولكن ما موضوع الفلسفة إذن؟ لا شيء مما هو إنساني، ومما هو موجود أو يمكن مجرد التفكير فيه غريبا عنها. إنها معرفة من صنف تأملي réflexif يحاول جاهدا الرجوع إلى مبدأ كل شيء، وبهذا بالذات تسعى لأن تكون معرفة بالكل la totalité ، وبالتالي معرفة بالذات العارفة بالكل.

ليست الفلسفة إذن علما، ولا رأيا. فهي بالتعارض مع الرأي معرفة، غير أنها على خلاف المعارف العلمية، المحولة مدرسيا إلى مواد دراسية، ليست معرفة محددة، ليس لها منهج وموضوع محددين.

ما يندرج في الفلسفة دون أن يكون خاصا بها

لا يمكن رغم كل شيء الاكتفاء بفكرة معرفة غير محددة. فالكينونة بالنسبة لكل كائن هو أن يكون محددا، أن يكون كذا أو كذا، ودون كذا ودون أي شيء لا يكون شيئا على الإطلاق. إن معرفة غير محددة تماما ستقوض بدون شك غرور أي مشروع ديدكتيكي، يرمي إلى "  تسهيل التلقين المحدد لمعارف محددة "2. ولا يمكن [ لمثل هذا المشروع ] أن يعلي مطلقا من قيمة أي ادعاء لتدريسها. أن تكون المعرفة الفلسفية غير محددة على طريقة العلوم الوضعية لا يعني أنها غير محددة من جميع النواحي. يتعين إذن البحث عن الملامح التي تسمح بتحديد المعرفة الفلسفية، وتكمن الصعوبة في تحديد ما ينتمي إليها وإليها فقط.

إن الفلسفة تفكير، ولا يترتب عن هذا بموجب قاعدة التبديل أن كل تفكير هو تفكير فلسفي: التفكير هو التمثل أي جعل ما هو خارج الذات حاضرا فيها، ذلك ما نقوم به، على حد سواء، أثناء التخيل والتصور 6، وأثناء الحلم وأثناء الحكم، وأثناء إبداء الرأي وأثناء الاستدلال. ولكي نخص التفكير المفاهيمي ونشاط التفكير القائم على الربط بين الأفكار في الحكم باسم التفكير، سيكون من اللازم الاعتراف بأن الناس مارسوا التفكير قبل سقراط وأن تلامذتنا مارسوا التفكير قبل أن يلجوا إلى قسم البكالوريا. إن الفلسفة تفكير تأملي، غير أن التأمل ليس خاصا بالفلسفة أكثر من غيرها: يتعين التأمل لممارسة الجعرافية والبيولوجيا أو فقط لاتخاذ قرار حول قضاء الأمسية في السينما أو في المسرح. فهي تفكير نقدي، غير أن الدراسات التاريخية تعتمد التفكير النقدي وتنميه، بالإضافة إلى ذلك، فقد صار من المبتذل الاعتراف بأن الفن يمارس بمعنى مغاير، مع ذلك، وظيفة نقدية في المجتمع. وهي تفكير دقيق ومتماسك، غير أن الدقة والتماسك يمكن أن يطالب بهما بكيفية مشروعة الفكر الرياضي. فهي بحث عن المعنى أو عن المطلق، غير أن هذا لا يسمح بتمييزها عن الدين. ها نحن في الدور [ المنطقي ]: ألا يوجد شيء يختص بالفلسفة دون غيرها؟

ما هو خاص بالفلسفة

إذا لم تكن أي خاصية من هذه الخاصيات تميز الفلسفة، فإننا مع ذلك لا نجدها مجتمعة ومرتبطة بكيفية عضوية إلا في الفلسفة. فالفكر الرياضي يقوم على تسلسل دقيق يعتبر نموذجا للدقة والتماسك، غير أنه لا يسعى وراء المطلق، ولا يعود إلى المبدأ اللافتراضي anhypothétique [مبدأ مطلق وكوني لا يمكن رده إلى مبدأ سابق عليه] بتعبير أفلاطون 7. أما الشعر فيدرك ما هو حقيقي، غير أننا لا يمكن أن نطالبه بالتماسك والدقة: فإذا كان أرسطو قد عاتب أمبدوقليس حين كتب " البحر عرق الأرض "8، فلأن هذا الأخير لا يعد نفسه شاعرا فحسب، ولن يشكو أي أرسطو آخر ينتمي إلى الأزمنة الحديثة ظلم إلوار  Eluard حين اعتبر أن " الأرض زرقاء مثل برتقالة "9.

إن هذه المستلزمات المختلفة والمتناثرة في حقول المعرفة الأخرى هي على العكس من ذلك مجتمعة في الفلسفة ومن خلالها. لذلك يمكن تعريفها بأنها فكر نقدي تأملي يميل إلى التحقق في خطاب صادق وكوني، متماسك تماما، ومنشغل بتأسيس كل قضاياه لبلوغ الوحدة النسقية للمعرفة. ففي الفلسفة تكون هذه المستلزمات مجتمعة ومرتبطة عضويا أيضا أي فيها ينكشف رفض المعتقدات والأحكام المسبقة إيجابا كمطلب نقدي أي كمطلب لجعل المرء يفكر بنفسه، وبالتالي عدم قبوله أي شيء على أنه حق دون القدرة على تأسيسه على العقل؛ وهكذا فالمطلب النقدي يوجه المطلب " التأسيسي "، مطلب العودة إلى المبادئ التي تسمح أسبقيتها المنطقية بالتأسيس الدقيق للخطاب، من خلال تقديم مسوغات لكل قضاياه. فالمعرفة بالمبادئ تؤسس بدورها النظرة الإجمالية  synoptique، وتسمح بإدراك التعدد كوحدة، والعودة إلى خصوصية الأشياء على ضوء ما هو كوني، ضامنة بذلك وحدة المعرفة داخل المعقولية المطلقة.

إذا كانت هذه هي فكرة الفلسفة ـ الفلسفة بوصفها فكرة ـ نفهم إذن بأي معنى هي معرفة: إنها ليست معرفة وضعية، ولكنها معرفة على نحو مطلق بالمنابع الأولى éminemment savoir، بالمعاني الثلاث للمفهوم السكولائي لمفهوم المنبع** 10: هي معرفة بالمبادئ، باعتبارها منبعا على نمط مغاير، ولأنها لا تكتفي بالتفسيرات الجزئية والجهوية، فهي المعقولية المطلقة، والأساس الأخير، فهي تبحث في أصل الوجود والمعرفة. وهي منبع مادامت جميع أنواع المعرفة قد خرجت تاريخيا من رحمها، وتشكلت انطلاقا منها. وهي التي لازالت إلى اليوم تحافظ على حيوية مطلب المعقولية، في حين يميل العلم المعاصر المنشغل بالفعالية أكثر من انشغاله بالحقيقة إلى التخلي عن هذا المطلب لصالح ما هو إجرائي. وهي تحافظ عليه على كل حال على نمط مغاير، مادامت وجهة نظرها ـ وبكيفية أدق موضوعها الصوري ـ ليس هو السببية الظاهراتية.

وبما أن الفلسفة معرفة بالمبادئ، فإنها ليست معرفة مؤسسة ( بفتح السين )، ولكن هي بالأحرى معرفة مؤسسة (بكسر السين)، فهي حياة الفكر نفسه وديناميته.

يبقى أن نعرف أين توجد هذه المعرفة بالمبادئ والمؤسسة التي نأمل في تدريسها. لا يمكنها أن توجد إلا حيث تجتمع كل المتطلبات المكونة لها أي في النصوص الحية بفضل هذه المتطلبات، أي في مؤلفات التقليد الفلسفي. لاشك أن كل واحد منها ليس سوى فلسفة معينة، ولكن يمكن الرد على هذا الاعتراض باستعارة هيجيلية ممتازة، ذائعة الصيت منذ زمن طويل: كل من يرفض فلسفة معينة بذريعة أنها ليست الفلسفة [ بإطلاق ]، لن يتذوق الفلسفة أكثر ممن يرفض الكرز والبرقوق والعنب بذريعة أن كل واحدة منها ليست سوى فاكهة، وليس هي الفاكهة11. لا يعني هذا أن تدريس الفلسفة يتم من خلال تدريس تاريخها، ولكن يعني أنه لا يمكن تدريسها بالتغاضي عن تاريخها، بل لا يعني أن مجرد تدريس الفلسفة بمنتهى الدقة ممكن. لنسلم عن طيب خاطر بما يذهب إليه م. طوزي M. Tozzi وهو أن ديداكتيك التفلسف وحده ممكن، وليس اتفاقنا معه صادر عن الحجة التي يزعمها، ولكنه صادر عن الحجة التي قدمها لنا كانط منذ زمن بعيد حين كتب " لا يمكننا تعلم أية فلسفة " 12، ولكن " لا يمكن تعلم سوى التفلسف فقط " 12. وهذه الحجة معروفة بما يكفي: لا يمكن تعلم الفلسفة، لأنها مادات تشكل الوحدة النسقية للمعرفة، فهي " مجرد فكرة عن علم ممكن غير معطى في أي مكان بشكل ملموس in concreto " 12. وبعبارة أخرى فهي غير موجودة أو على الأقل لم توجد بعد. ويمكن في المقابل تعلم التفلسف، بمعنى " تعلم ممارسة استعداد العقل لتطبيق مبادئه العامة على بعض المحاولات التي تعرض أمامه "12. وهذه المحاولات ليست شيئا آخر سوى الفلسفات الذاتية التي هي نسخ غير موفقة للنموذج " الذي يكون بناؤه في الغالب متنوعا ومتغيرا جدا" 12 أي الأنساق المختلفة التي تعاقبت عبر تاريخ الفلسفة.

يقوم التفلسف إذن على ممارسة استعداد العقل من خلال التفكير بكيفية نقدية انطلاقا من الفلسفات التي تطورت ضمنها فكرة الفلسفة تاريخيا. ذلك هو ما يمكن تعلمه، وذلك هو ما ينبغي تدريسه.

النتائج الديدكتيكية

إذا كان الأمر كذلك، يمكن أن نستخلص مباشرة نتيجتين فيما يتعلق بديدكتيك الفلسفة.

1.     زمن الفلسفة

مادامت الفلسفة بالأساس تفكيرا تأمليا، فإن مكانها الطبيعي يوجد في نهاية مسار التعليم العام، فكل تفكير تأملي يفترض موضوعات للتفكير مبنية سلفا. لاشك أن بناءها ليس تاما أبدا، ولاشك كذلك في أنها دائما عند نقطة البداية؛ ولكن بحسب الملاحظة الصائبة ل م. موكليوني M. Muglioni " ما هو مفيد إنجازه لجعل الطفل متنبها لقواعد منطق المعارف التي تكون في متناوله، ينتمي للتعليم العادي، ولا يستحق مطلقا تسميته فلسفة إن كنا نريد، على الأقل، أن نحتفظ لهذا الاسم بدلالة قبل للتعيين "13. ولأنه لا يمكن في الواقع التعلم بدون فهم، فإن على التعليم العادي أن يستثير التأمل. ولا يمكن أن نستنتج من هذا سوى أن كل تدريس يستحق هذا الاسم هو تدريس فلسفي، وليس في هذا ما يثير الدهشة، إن كان من الصحيح أن الفلسفة بوصفها معرفة بالمبادئ هي براديغم كل معرفة. أما بالنسبة لتدريس الفلسفة الذي ينبغي تمييزه عن الطابع الفلسفي لكل تعليم، فيفترض القدرة على ممارسة الحكم والتفكير التأملي في النصوص الكبرى للتقليد الفلسفي، أي في نصوص، تتطلب، حتى بالنسبة لأقلها صعوبة، معارف مبنية وتحكما في اللغة لا يمكن أن ننتظره منطقيا من أطفال صغار. هذا لا يعني بالطبع أنه ينبغي تخصيص تدريس الفلسفة لمن بلغوا سن الخمسين كما ذهب إلى ذلك أفلاطون 14... وبالفعل لا يتعلق الأمر بالسن، ولكن بالتكوين المكتسب 13. يمكننا القول بأن زمن الفلسفة، إن جاز القول، منطقي أكثر منه كرونولوجي، إذ يوجد في الأقسام النهائية للثانويات تلاميذ في سن 16 وآخرين في سن 20، وقد يكونوا الصغار أكثر قدرة من الكبار على التفلسف، إن كانوا أكثر تعليما وتبصرا، فهم يملكون القدرة على ممارسة استعداد عقولهم على النصوص وعلى أعمال الفلاسفة.

2.     مكان الفلسفة

هذه النصوص وهذه الأعمال هي بالفعل مكان الفلسفة: وهذا ما ينبغي على أي ديدكتيك للتفلسف أن يتحاشى نسيانه. ولهذا السبب، فإنه لمن المشتبه فيه منح الإحالة إلى النصوص " طابعا أداتيا محضا "، كما هو الأمر لدى مؤلفي تعلم التفلسف، ومن المبالغ فيه تماما الارتكاز في هذا على تعليمات  2 شتنبر 1925. فالمقطع المشار إليه يقول بالفعل إن على تدريس الفلسفة أن يتجنب " كل نقاش حول أسئلة لا يتم تسليط الضوء على دلالتها الملموسة، وعلى علاقتها مع التجربة والواقع "، ويتابع: " ما هو أساسي بالنسبة للمدرس هو بالأحرى طريقة طرح الأسئلة أكثر من مناقشة الأطروحات والمرافعات المدرسية... وحين يبدو أن من المفيد التعريف بالمذاهب، ستظهر حينئذ على أنها تعبير عن تعدد وجهات نظر ممكنة حول السؤال موضع الدرس. وستفيد في تصنيف الأفكار المشتقة من الأشياء ذاتها، وبذلك ستحظى بكامل قيمتها ".

نرى جيدا أن الأمر يتعلق بالتحذير من المرافعات المدرسية المفصولة عن الواقع، ومن عروض المذاهب بكيفية منفصلة عن الأسئلة التي تمنحها معناها. ذلك ما يؤكده المقطع الذي يلي ذلك مباشرة، والذي تحاشى مؤلفو تعلم الفلسفة إيراده: لاشيء خليق بأن يشوه التفكير، وأن يحيد به عن كل تفكير جاد، ويبعث الاشمئزاز في النفوس الصلبة إزاء فلسفة معينة لا يرون فيها سوى جدل عقيم أكثر من تلك " المراجعات " اللانهائية للآراء المختلفة والمتعارضة حول إشكالات لم يفصح عنها بوضوح. إن مثل هذه " المراجعات "، قليلة الفائدة بسبب الاختزال الذي لا يمكن تجنبه، إذ نجد أنفسنا في معظم الاحيان أمام استحالة دعمها بدراسة مباشرة للنصوص الأصلية، مما يفضي إلى شحن الذاكرة دون أن ينير الفكر " 16.

لا نتعلم التفلسف إذن من خلال رصف المذاهب بجوار بعضها البعض، ومن خلال استعراض المؤلفين الواحد تلو الآخر، كما لو كانت تلك المذاهب تختزل في آراء هؤلاء، ولكن يمكن إثارة التفكير الحي للتلاميذ من خلال جعلهم يواجهون النصوص الأصلية، لأنها هي ذاتها تجل لتفكير حي على الدوام. هل يمكن إذن ان نمنحها "طابعا أداتيا خالصا"؟ إن كنا نريد أن نعني بذلك أن النص الفلسفي ليسا نصا مقدسا، ولا يملك قيمة دوغمائية، وأنه هنا من أجل إيقاظ التفكير واستثارته، فنحن على صواب، ولكن إن كان الأمر يتعلق باختزال النصوص الفلسفية وردها على أدوات، وجودها مثل عدمه، بل غريبة عن النشاط الذي تسمح بممارسته، إذا كان الأمر يتعلق بتحويلها إلى أدوات قابلة للاستبدال لإكساب " الكفايات "، إذا كان الأمر يتعلق بردها إلى مجرد دعامات للعمليات العقلية، فإننا بذلك نجر ديدكتيك الفلسفة نحو التقنيات الشكلية التي تتعارض مع التفكير الفلسفي نفسه. إن اختزال النصوص الفلسفية إلى مجرد ذرائع أو " أدوات " خالصة هو نسيان أنه لا يمكنها أن تستثير التفكير الحي للتلميذ إلا إذا كانت هي نفسها حية بالنسبة لمن يتحمل عبء تدريسها للتلميذ. وإذا كان اختيار النصوص يختلف بكيفية مشروعة من مدرس إلى آخر، فإن هذا الاختيار ليس اختيارا غير مكترث بالنسبة لمن يقوم به: فهو إن لم يكن يعبر عن فلسفته، فهو على الأقل يعبر عن تجذره في تقليد فلسفي خاص يتغذى منه فكره، وفي هذه الحالة فقط يكون تفكيرا قادرا على إيقاظ الآخر لحياة الفكر.

يتعلق الأمر الآن بفحص ما إن كانت القضايا الديدكتيكية وفية لفكرة الفلسفة كما سبق تحديدها من قبل.   

   II.            الفلسفة في مرآة الديدكتيك

الأهداف النواة في المثلث الديدكتيكي للفلسفة.

توجد نقطة الانطلاق النظرية للقضايا المطروحة من قبل المتخصصين في ديدكتيك الفلسفة في مفهوم " الهدف النواة " المقتبس من ديداكتيك العلوم التجريبية. ويعرفه م. طوزي بوصفه " التوافق الديدكتيكي بين ما ينبغي تدريسه باعتباره ما هو أساسي في الفلسفة ( منطق محتوى المواد الدراسية )، وما يمكن لتلاميذ السنة النهائية استيعابه ( منطق استيعاب المتعلمين ) " 17. لذلك ينبغي تحديد ما هو أساسي في الفلسفة، وهنا تكمن الصعوبة، لأن " التوافق الفلسفي بين الفلاسفة حول ما هي الفلسفة متعذر، إذا أخذنا بعين الاعتبار التعدد التاريخي للمذاهب التي تدعي كل واحدة منها المشروعية " 18. ومن حسن الحظ أن " توافقا ديدكتيكيا " 18 سوف يحل محل التوافق الفلسفي المفتقد: إذا كان بالفعل " التوافق صعبا حين يتعلق الأمر بالفلسفة باعتبارها نتاجا للفكر (...)، فإن هذا التوافق ممكن حين يتعلق الأمر بالفلسفة كسيرورات في التفكير "19. وهكذا يمكن استخراج ثلاثة أهداف تشكل المثلث الديدكتيكي للتفلسف:

1.     القدرة على المفهمة conceptualiser الفلسفية لمفهوم أولي *** notion.

2.     القدرة على الأشكلة problématiser الفلسفية لسؤال أو مفهوم أولي.

3.     القدرة على المحاجة الفلسفية لأطروحة " 20.

ألا توجد هنا مصادرة على المطلوب؟ يتعلق الأمر في تعريف الأهداف ـ النواة بتحديد ما هو أساسي في الفلسفة. ويبدو هنا أن ما هو أساسي في الفلسفة هو التفكير بطريقة فلسفية، مادام كل من المفهمة والأشكلة والحجاج لا يختص بالفلسفة: ينبغي المفهمة لدراسة بالبيولوجيا 21، والأشكلة لدراسة الإقتصاد، والمحاجة لدراسة التجارة. ذلك ما يعترف به مؤلفو تعلم التفلسف من خلال إقرارهم " بأنه توجد هنا بالتأكيد نواة خاصة بالمادة الدراسية، مادامت توجد طريقة خاصة بالفلسفة في المفهمة والأشكلة والحجاج " 20. وهذه الطريقة الخاصة بالفلسفة هي التي ينبغي أن تشكل الهدف ـ النواة الذي يتصل بالنقط الأساسية التي ينبغي أن " تتعلق بكنه المادة، والتي تميزها بكيفية خاصة ( مقارنة مع باقي المواد الأخرى ) وعلى مستوى العمق في الآن نفسه "22. و" مادام الأمر يتعلق بتعليم محدد، فكل نقطة ينبغي أن تكون في متناول الفئة المستهدفة " 22. وهكذا ينبغي للهدف أن يكون فلسفيا بكيفية خاصة، وفي متناول تلاميذ القسم النهائي في الوقت ذاته. يتعين علينا أن نفحص ما إن كانت الأهداف ـ النواة تستجيب لهذا المطلب المزدوج.

المفهمة بطريقة فلسفية

لجعل التلاميذ يستأنسون بالمفهمة الخاصة بالفلسفة، يقترح أصحاب ديدكتيك الفلسفة منهجين: الاستقراء الموجه بالتضاد والمقاربة المجازية للمفهوم.

1.     المقاربة المجازية للمفهوم

تقوم المقاربة الثانية على استدراج التلميذ لتعريف مفهوم أولي من خلال استخلاص عناصره المجردة بتدرج، انطلاقا من الصور التي يثيرها فيه المفهوم الأولي. نطلب منه في بادئ الأمر أن يحول المفهوم الأولي إلى صور ثم يبرز السبب الذي أفضى به إلى اختيار هذه الصورة أو تلك، ويستخرج في الأخير العنصر المجرد المتضمن في السبب. وليقوم بذلك عليه أن يجيب عن استبيان يقدم إليه في الصورة التالية:  

 

إذا كانت السعادة

ستكون

لأن

العنصر المستخرج

لونا او شكلا

الأصفر

 لون دافئ

السكينة réconfort

صوتا أو موسيقى

إيقاع ج. م. جار (J-M. Jarre)

إيقاع مهدئ

الهدوء

رائحة

رائحة الزنبق

منعشة

الانبعاث renouveau

مذاقا

مذاق الزنجبيل

قوي

القوة

إحساسا بالملمس

لطف الملمس

لطيف

اللطافة

انفعالا او إحساسا

الحب

لابد من صحبة

حضور الآخرين

موضوعا

ماسة

ناذرة

الرغبة

مكانا او منظرا

منظرا جبليا

العظمة

الشساعة

حيوانا

حوت البالة baleine

في طريق الانقراض

النذرة

نباتا

زهرة

هشة

الهشاشة

شخصا ( بارزا: مغني، رياضي )

Dalaï-Lama

جد هادئ وبشوش

الصفاء

حرفة

صحافيا

دينامي

الدينامية

لحظة من لحظات اليوم أو الحياة

غروب الشمس

لأن ألوان الشمس أكثر رقة

الرقة

فترة من فترات التاريخ

في فرنسا منذ 20 سنة

لم تكن هناك حروب

السلم

عمل فني

لوحة انطباعية

لجمالها

الامتلاء Plénitude

 

إن أشكال عدم التماسك التي يعج بها هذا الجدول صادمة دون شك. فالسبب المقدم لرائز "الإيقاع المهدئ"، هو الهدوء وليس السلم. وهذا الأخير تم استخلاصه من الرائز ما قبل الأخير، " لم تكن هناك حرب ". وبعد ذلك نرى أن السعادة إن كانت شيئا فستكون ماسة، لأنها ناذرة جدا، والعنصر المستخلص هو الرغبة. غير أن الاختلاف بين الرغبة والشيء المرغوب فيه، وبين الرغبة وما يلبيها، هو مع ذلك، اختلاف لا يمكن الاستهانة به من الوجهة الفلسفية. والنذرة والهشاشة تم استخلاصهما من كون السعادة هشة مثل زهرة، وناذرة مثل حوت البالة: ذلك منطقي، ولكن لماذا تم استخلاص الحنان وليس اللطافة التي يمكن استخلاصها مرتين من سببين " لأنه لطيف " و" لأن ألوان الشمس أكثر رقة "؟ وبما ان السعادة هادئة وبشوشة مثل Dalaï-lama ، فإن مفهومها يستدعي الصفاء وليس الهدوء المنبعث من الإيقاع المهدئ لموسيقى Jean-Michel Jarre. أما السبب " لأنه دينامي " فحيل إلى الدينامية، غير أن جمال اللوحة الفنية ينبغي أن يحيل على الجمال وليس الامتلاء.

وبدون شك فهذه الأشكال من عدم التماسك، وهذه الأشكال من الخلط، وهذه التقديرات قد تنسب إلى "المتعلمين" وليس إلى مدرسيهم. فإذا تحمل هؤلاء عناء تصحيحها، فقد يكون لها بعض الحظ في تدريبهم على متطلبات المنطق والدقة المفهومية، غير أن لا شيء من ذلك سيحصل كما سنبين ذلك. سيتم بالفعل دعوة التلاميذ في لحظة ثانية إلى " تجميع العناصر المستخلصة في شبكة متماسكة لبناء تعريف تقريبي، بالتأكيد، ولكنه واضح، يكون نقطة انطلاق لتعميق فلسفي " 23. والنتيجة كما سنرى جديرة بالاعتبار:

" السعادة هي حالة سلم واكتمال، غير أنها ناذرة وهشة. تتطلب حضور الآخرين وحنانهم. ويمكن القول بأنها إشباع لرغباتنا الأكثر عمقا. فالسعادة شاسعة وتتجاوزنا؛ وبقوتها تمنحنا القوة والدينامية من جديد " 23.

ينحصر هذا التعريف المزعوم في استعادة ورصف إحدى عشرة عنصرا تم استخلاصها مسبقا: اختفى منها، يعلم الله وحده لماذا، السكينة والصفاء والانبعاث. هذه الرابسوديا  rhapsodie[ الارتجال ] المكونة من عناصر متنافرة، ومجمعة بكيفية عشوائية أو مترابطة بكيفية مصطنعة تذكرنا بقوة بالمحاولة الأخيرة التي قام بها أوطيفرون لتعريف الورع piété إرضاء للتماس سقراط: " يمكنني أن أقول لك ببساطة إن الورع يكمن في قول وفعل ما يرضي الآلهة من خلال العبادة وتقديم القرابين، فبهذا تحافظ عائلات الأفراد وجماعات المواطنين على نفسها. وضد ما يرضي الآلهة هو الفجور الذي يؤدي إلى الانحلال وضياع كل شيء " 24. ويمكن أن نورد "التعريف" الثالث الذي يقترحه هيبياس للجمال: " ما هو أكثر جمالا في العالم هو أن تكون غنيا، وفي صحة جيدة، ويشرفك الإغريق، وتبلغ الشيخوخة، وبعد أن تكون قد أنجزت جنازة جميلة لأبويك، يوليك أبناؤك جنازة جميلة وعظيمة الشرف " 25. قد نلتمس العذر لهيبياس وأطيفرون، إذ لم يكونا مدفوعين للقيام ب" مقاربة مجازية للمفهوم " من قبل الفيلسوف الذين يتحاوران معه...

وهكذا نفهم دون عناء أنه بمجرد ما يتم الإفصاح عن "التعريف المقارب" "définition approchée"  يصبح " تمثلا تعاد مساءلته عن طريق الأشكلة " بكيفية فظة 23. ومن جانب آخر لا نفهم إلا قليلا فيما تفيد الاستراتيجية المتبعة في "الإعداد للتجريد" 26، ونفهم بكيفية أقل بأية معجزة "سترقى بالتلميذ درجة واحدة في التجريد" 27.

2.     الاستقراء الموجه بالتضاد

يرمي منهج الاستقراء الموجه بالتضاد والمقتبس من  Britt-Mari Barth إلى بناء مفهوم انطلاقا من مفهوم أولي عن طريق تعرف محمولاته بالتدريج. وللقيام بذلك نوزع على التلاميذ أثناء الحصة الأولى خمسة أزواج من الأسئلة مرقمة من 1 إلى 10، كل زوج يرتبط بالموضوع نفسه، الأسئلة الزوجية أسئلة فلسفية والأسئلة غير الزوجية لا فلسفية، ولا يتم إخبار التلاميذ بهذا المعيار:

ا1. كيف يمكن أن نجد أول شغل؟

ا 2. لم الشغل؟

ب 3. على أية حجج ترتكز نظرية انفصال القارات؟

ب 4. ألا ينبغي حصر الحقيقة في ما يقبل البرهان فقط؟

ج 5. كم كان ثمن لوحة " عباد الشمس " لفان كوخ؟

ج 6. هل يمكن شراء كل شيء؟

د 7. هل ينبغي البحث عن أصل الثورة الفرنسية في انتفاضة الهيئة الثالثة؟

د 8. هل الثورة حق؟

ه 9. ما الدماغ؟

ه 10. ماذا يعني التفكير؟ 28

يدعى التلاميذ للبحث بالتدريج عن القاسم المشترك، وعن الاختلاف بين كل زوج ثم يدعون للبحث عن القواسم المشتركة بين الأسئلة الزوجية وغير الزوجية. يلي ذلك ثلاثة مقاطع تضفي المزيد من التركيب على المنهج من خلال طرح أسئلة لا تخضع لنظام معين، أسئلة تتعارض فيما بينها بكيفية أقل وضوحا من السابقة أو الأسئلة التي تقبل قراءات متعددة، ويطالب التلاميذ بكتابة تعريفات مؤقتة بكيفية فردية أو في مجموعات صغيرة، من خلال توجيههم لمجابهة هذه التعريفات المؤقتة بهدف استخلاص المحمولات المتفق عليها وغير المتفق عليها.

ويمكن تقويم نتيجة هذا العمل على ضوء التعريف الذي يقول لنا مؤلفو تعلم التفلسف أنه بني في نهاية أربعة مقاطع في قسم السنة النهائية علوم اقتصادية واجتماعية:

" يحمل التساؤل الفلسفي طابعا عاما ومجردا، ويرتبط بجميع أبعاد الوجود الإنساني. لذلك فهو يتوجه لكل إنسان. فهو يسائل معنى الأفكار الجاهزة والأجوبة السهلة والنهائية. ويستدعي التساؤل التفكير النقدي، غير أنه يتطلب منا أيضا أن نكون يقظين اتجاه الأفكار التي ليست أفكارنا. ويستلزم مناقشات تتطلب من كل واحد أن يبحث عن حجج عقلية ومتماسكة. وأن يخلص إلى أجوبة شخصية ستكون موضع تساؤل يوما ما " 29.

تبدو هنا من دون شك خصائص المنهج الفلسفي من خلال هذا التعريف: عمومية التساؤل، ضرورة التماسك والكونية، السعي نحو الشمولية، الفكر النقدي، الإعلاء من قيمة العقل. ويبدو أن الاستقراء الموجه بالتضاد، على خلاف المقاربة الاستعارية، يفضي إلى مفهمة حقيقية. ومع ذلك فإن المميزات التي يعلن عنها التعريف المقترح، مهما بدت صائبة بالنسبة لموضوعها، فهي متراكمة، مما يجعلها تكتسي طابع التعدد: ينقصها التمفصل أي أن تكون موحدة في فكرة. وللحصول على هذه النتيجة كان ينبغي مطالبة التلاميذ بالمفهمة الفلسفية وليس بالمفهمة فحسب، وذلك ما لا يمكن القيام به، كما رأينا أعلاه، إلا من خلال البحث عن فكرة الفلسفة في الموضع الخاص بها أي بداخل النص الفلسفي. هل سيكون هذا الأخير في متناول التلاميذ "باعتبارهم تلاميذ"؟ لا تنعدم في محاورات أفلاطون، خصوصا المحاورات الأولى، نصوصا قصيرة حية تسمح قراءتها وشرحها بفهم فكرة الفلسفة، وكذا مكان نشأتها. ولتكن مقدمة أوطيفرون 30 مثلا. فالمقدمة تعرض دعوتين قضائيتين، الحكم على سقراط بالفجور الذي صدر منذ حين، والدعوى التي يرفعها الكاهن ضد أبيه باسم الورع، وتطرح سؤالين: هل سقراط فاجر؟ هل أطيفرون ورع؟ فالكاهن الغارق في معتقداته الدوغمائية يملك أجوبة جاهزة عن هذين السؤالين، غير أن الفيلسوف سيستبدل هذين السؤالين " البدئيين" الذين ليسا سؤالين فلسفيين، لأنهما يتعلقان بحالات خاصة تحضر فيها مصالح وأهواء كل طرف من الأطراف، بسؤال " أول "، هو الأول منطقيا لأنه يؤسس لإمكانية الإجابة عن الأسئلة التي طرحت في البداية زمنيا: لمعرفة ما إن كان سقراط ورعا أو فاجرا، يتعين في البداية معرفة ما الورع. وهكذا يقوم التساؤل الفلسفي على طرح أسئلة مبدئية، والمبدأ ليس شيئا آخر سوى الفكرة  l'Idée، الفكرة الواحدة والكونية التي يسمح بلوغها بالتأسيس العقلي للقضايا التي تترابط في الخطاب.

تظهر كذلك هذه المقدمة المكونة من ثمان صفحات وبمفردات سهلة أن المطلب النقدي ( هو سلبا رفض المعتقدات والأحكام المسبقة، والآراء؛ وهو إيجابا مطلب تفكير المرء بنفسه ) يحيل على مطلب تأسيس الخطاب لنفسه بنفسه auto-fondation  (لا أفكر بنفسي أو بكيفية حرة إلا حين أستطيع أن أؤسس ما أقوله على العقل فقط)، وهو ذاته يحيل إلى مطلب الفكرة " الجوهرانية ""eidétique"  ( الصعود إلى الفكرة l'Idée لأنها هي المبدأ القادر على تأسيس الخطاب )، وهذا المطلب الثلاثي هو المطلب الفلسفي.

قد يعترض علينا بأننا بهذا لا نكتشف فكرة الفلسفة ولكن مفهومها السقراطي أو الأفلاطوني الذي لا يتقاسمه الجميع؟ قد يعود هذا الاعتراض إلى أننا أشرنا سريعا نوعا ما إلى استحالة وجود توافق بين الفلاسفة حول ما هي الفلسفة... إن الأستاذ الذي يجد متعة التفلسف في قراءة سبينوزا أكثر من أفلاطون يمكنه، ونحن هنا نحذو حذو ما يوحي به ألان بيوك Alain Billecoq 31، قراءة الرسائل حول الأطياف مع التلاميذ لجعلهم يكتشفون كيف تتجلى المطالب الفلسفية في هذا الحوار بالمراسلة: يتجلى المطلب النقدي من خلال رفض الحجة بالسلطة (" ليس لسلطة أفلاطون وأرسطو الخ... تأثيرا كبيرا علي ")، 32 ويتجلى المطلب " الجوهراني " من خلال إحلال السؤال الأول محل السؤال المطروح في البداية (قبل أن نتساءل حول ما إن كان للأطياف وجود ينبغي أن نتساءل حول ما هي الأطياف) 33، ومطلب تأسيس الخطاب من خلال الدعوة المتكررة لاستخدام العقل بدل الخيال، وعدم قبول شيء على أنه حق إلا إذا تمت البرهنة عليه ( " لأنه من قضية واحدة خاطئة تستنتج قضايا خاطئة لا حصر لها " ) 32.

إذا كانت المقاربة الاستعارية تمنع المفهمة، فالاستقراء الموجه بالتضاد لا يسمح بالمفهمة الفلسفية الخاصة. فهذه الأخيرة تتطلب احتكاكا مباشرا بالنصوص التي تشكلت فيها بالفعل.

الأشكلة الفلسفية

1.     الهدف ـ العائق والأشكلة

لبلوغ الهدف ـ النواة الثاني للمثلث الديدكتيكي للفلسفة، ينبغي حسب مؤلفي تعلم التفلسف، تحديد " الأهداف ـ العوائق ". ومفهوم الهدف ـ العائق الذي يقال لنا بأنه مستمد من مفهوم العائق الابستمولوجي لدى باشلار قد عرفه ف. ميريو Philippe Meirieu  بأنه " هدف يمكن الذات التي تكتسبه من تخطي درجا حاسما في التقدم من خلال تغيير نظام تمثلاتها، وجعلها ترتقي إلى مستوى أعلى في الصياغة " 34. فما هي العوائق التي تعترض الأشكلة الفلسفية؟ يقدم مؤلفو تعلم التفلسف لائحة غير شاملة: "الركون إلى اليقين، الجهل بالإشكالات الفلسفية التي ظهرت تدريجيا عبر التاريخ (...) التمييز بين الإشكالات الفلسفية والإشكالات غير الفلسفية (...) الجهل بوجهات النظر المختلفة لوجهة النظر الخاصة، الممانعة في الأخذ بعين الاعتبار رأيا مضادا حول الإشكال نفسه" 35. ولتجاوز هذه العوائق يقترحون أربعة أصناف من التمارين: حدد السؤال الفلسفي المتضمن في "الرأي ـ الجواب" (مثال: " ذلك مكتوب " يحيل إلى " هل حياة الإنسان محددة سلفا؟ ")، صغ سؤالا فلسفيا يقدم يقينك جوابا بالإيجاب أو بالنفي عنه ( مثال: " الله فكرة ابتكرها الإنسان " تحيل " إلى " هل الله موجود؟ " )؛ اقترح أجوبة مغايرة لأجوبتي؛ اقترح أجوبة مختلفة حول سؤال فلسفي معين (مثال: هل هناك حياة بعد الموت؟ لا، الموت يعني العدم. نعم، من خلال التناسخ. نعم، من خلال البعث. هل الموت عدم أم حياة جديدة؟ ).

يمكن الشك بالطبع في أن يشكل تعداد هذه الأجوبة إشكاليا فلسفيا. غير أن هؤلاء الديدكتكيين يستبقون الاعتراض من خلال الملاحظة التالية: " لا تختزل إعادة الصياغة الفلسفية في الأخذ بعين الاعتبار تنوع الأجوبة الممكنة، إلا إذا افترضنا من وجهة نظر نسبوية أن الاعتراف بوجهات النظر الأخرى يندمج مع مطلب الحقيقة. غير أنه بالنسبة للتلميذ الذي يعيش ضمن بداهة الأجوبة الوحيدة على أسئلة غير مطروحة، يؤدي مطلب صياغة الأسئلة في صورة بديلة، من خلال تدرجه البطيء، إلى قطيعة مع العادة الطويلة للإثبات والإجابة المباشرة " 36.

إن التلاميذ من سوء الحظ لا يعيشون ضمن بداهة " الأجوبة الوحيدة " فحسب، بل وعلى الخصوص ضمن بداهة هذه النسبوية السهلة التي تنشأ بعفوية من معاينة تعدد الآراء، والتي نجد آثارها في خاتمة إنشاءاتهم الفلسفية في معظم الأحيان: " بعضهم يرى... والآخرون يرون العكس... وأخيرا لكل واحد الحق في أن تكون له آراء... هناك الصالح والطالح في كل شيء ". هناك ما يدعو إلى الخشية القوية من أننا ندفع بالتلاميذ، من خلال دعوتهم إلى تعداد " أجوبة مغايرة "، في طريق النزعة الشكية اللافلسفية. فالإكثار من الآراء هو شيء مختلف تماما عن القطع معها، وعلى أولئك الذين يوردون دعم باشلار أن يتذكروا أنه " لا يمكن تأسيس شيء على الرأي: ينبغي تحطيمه أولا " 37. وكذلك الأمر فيما يتعلق بهذا " الصراع السوسيومعرفي " الذي ينتظر منه أن يعمل على بروز التمثلات، إذ قلما نسلم بأن هذا الصراع بين النظراء، حتى في لحظة أولى، يمكن من " الإسهام في القطائع " 38 أكثر من مواجهة التلميذ للنص الفلسفي. إن التلاميذ على العموم يعرفون جيدا الطريق من الثانوية إلى المقهى الأقرب الذي يلتقون فيه: وقد يتوقعون من مدرس الفلسفة أن يبين لهم طريقا آخر.

2.     مقدمات فلسفية

لا يكفي التعبير عن الآراء المختلفة لبناء إشكال. فالإشكال هو أولا عائق يتعين تخطيه. وتعلم الأشكلة هو تعلم إدراك عائق حيث لا يظهر بوضوح تام ثم صياغته. ومادام تحويل السؤال إلى إشكال هو الدور الذي تنهض به مقدمة الإنشاء الفلسفي، كما هو متفق عليه، فليس مما لا فائدة منه أن نفحص أمثلة المقدمات 39 التي يعرضها ويعلق عليها مؤلفو تعلم التفلسف.

قبالة ثلاث مقدمات محررة يوجد " دليل ـ الأسئلة " الموجه للتلاميذ ليتمكنوا من استخراج المعايير التي تجعلها مقدمات "صحيحة"، من خلال الإجابة عن الأسئلة المطروحة. الموضوع الأول هو " وفق أية معايير يمكن تمييز العمل الفني عن أي موضوع آخر؟ "، والسؤال ـ الموجه رقم 4 المطروح حول الجملة الأخيرة من المقدمة المقابلة له هو: " ما وظيفة الجملة الأخيرة في المقدمة؟ " والجواب هو: " تقريب الحدود بعد إقامة تضاد فيما بينها؛ فالتضاد يسمح بطرح الإشكال من خلال استعادة حدود السؤال المطروح ". وهكذا تنتهي المقدمة ب " ما يميز الموضوع الفني وأي موضوع آخر هو أنه "معطى حسي". ولكن بعيدا عن هذه الخاصية المشتركة نستشعر عددا من المعايير التي تسمح بتمييز العمل الفني عن أي موضوع آخر؛ فما هي هذه المعايير؟ ". يكفي أن نقارن بين هذه الجملة الأخيرة والسؤال المطروح في البداية لنسجل بأن هذه الجملة وإن كانت تستعيد الحدود، فهي لا تطرح بدقة أي إشكال ـ اللهم إن قررنا أن نسمي " إشكالا " " استشعارا " ـ حول موضوع يمكن معالجته بطريقة من الطرق... والسؤال ذاته ( وظيفة هذه الجملة ) تم طرحه حول الجملة الأخيرة من المقدمة ويقابل الموضوع الثاني: " هل هناك قواعد طبيعية؟ "، والجواب هو" الإعلان عن التصميم ". لنلاحظ هنا أيضا هذه الجملة الأخيرة: " ودون ادعاء الإحاطة الشمولية بالإشكال، سنقوم بتركيب للآراء ولتيارات الفكر ومجابهتها علنا نتوصل إلى " خلاصة " لا يمكنها أن تكون سوى خلاصة ذاتية ". وهكذا فما تم التصريح به في هذه المقدمة " الصحيحة "، هو عرض للآراء يختتم بفكرة ذاتية بالضرورة، بمعنى، إن كان لا يزال للكلمات من معنى، رأيا أخيرا. ويمكن أن نقيس على ضوء هذه النتيجة إلى أي مدى ساهم الصراع المعرفي بين الأقران في القطيعة مع الرأي، وتدريب التلاميذ على الأشكلة الفلسفية.

3.     الإشكال الخطابي  rhétorique والإشكال الفلسفي

لا يطرح كل شيء إشكالا، وكل إشكال ليس [بالضرورة] إشكالا فلسفيا. ثمة إشكالات حقيقية وإشكالات زائفة، وثمة تناقضات عقيمة وتناقضات خصبة، خصومات لفظية وإشكالات فلسفية حقيقية. ولما تم التمييز في الأصل بين هذه وتلك من قبل الفلسفة، فإن الديدكتيك الذي يريد أن يعلم الأشكلة الفلسفية لا يمكنه أن يتعاطى معها بكيفية أفضل إلا من خلال جعل التلميذ يحتك مع النصوص التي يتحقق فيها هذا التمييز. وهكذا ففي محاورة أوتديما  l'Euthydème يعمل السوفسطائيان على التوالي على حمل الشاب كلينياس Clinias على التسليم بأن أولئك الذين يتعلمون هم جهلة، لأننا لا نتعلم إلا ما نجهله، وهم علماء ما دام لا يمكننا التعلم إلا انطلاقا مما نعلم، غير أن سقراط لم يجد أية صعوبة في أن يبين له أنه لا يوجد هنا سوى تناقض سطحي، فقد استغل أوتيديم وديونيزودور  Dionysodore المعنى المزدوج لفعل manthanein الذي يشير أحيانا إلى تعلم وأحيانا إلى فهم 40. وعلى العكس من ذلك حين يسأل سقراط محاوره في الأوطيفرون: " هل الإنسان الورع محبوب من قبل الآلهة لأنه ورع أم أنه ورع لأنه محبوب من قبل الآلهة؟ " 41، فهو يطرح سؤالا فلسفيا حقيقيا يمكن التعبير عنه، بحدود معاصرة، باعتباره إشكال العلاقات بين الأخلاق والدين، فالأولوهية في الحالة الثانية هي التي تحدد القيمة، وبالتالي فالدين هو الذي يؤسس الأخلاق. وعلى العكس من ذلك، نجد في الحالة الأولى قيمة Valeur أو خيرا  Bienتعترف به الألوهية ذاتها، وبالتالي يتعالى عليها.

ليست جلبة الآراء وتعدد الخطابات كافية لتشكل إشكالا فلسفيا. فإذا كان هذا الأخير حقا " العائق الذي نفهم لم هو عائق " 42، حسب تعبير هوبير غرونييه  Hubert Grenier، فلماذا لا ندفع بتلامذتنا إلى الغوص في قلب هذه النصوص حيث يظهر العائق وتنكشف معه في الوقت نفسه وسائل فهمه؟ لا تنعدم في محاورات أفلاطون مشاهد مسلية أولا قبل كل شيء، ولا يمكن لتأملها الطويل سوى أن يوقظ في التلاميذ بالتدريج حس الإشكال.

 

 

المحاجة بطريقة فلسفية

1.     الحجاج والسفسطة

تبعا لما هو أساسي في مفهوم الهدف ـ النواة، كما تم تعريفه أعلاه، يركز مؤلفو تعلم التفلسف، حين يتطرقون إلى مسألة الحجاج على نقطتين: ضرورة تحديد ما هو الحجاج الفلسفي الخاص، وتحديد بما هو قابل للاستيعاب من قبل التلاميذ، ويمكن أن يطلب منهم. غير أنه يبدو ثانية أن المطلب الأول يتم التضحية به لصالح الثاني. ورد تحت قلمهم أنه " فيما يتعلق بالتعلم، لا يمكن للقدرات أن تكون متماثلة لدى كل من المستئنس والمتخصص " 43. ليس في ذلك شك. غير أنه لا يمكنها أن تقوم على مبادئ متعارضة. ليست البلاغة بالنسبة للفلسفة كشأن الاستئناس بالنسبة إلى التخصص: ليس الحجاج الخطابي مستوى من مستويات الحجاج الفلسفي: إنه مضاد للفلسفة. والحال أنه بعد اقتراح صنف من التمارين يستهدف إكساب التلميذ التمييز بينهما، يقترح مؤلفو تعلم التفلسف عددا آخر منها لا يمكنه سوى أن يكرس الخلط. وهكذا يطلب من التلاميذ " إيجاد أطروحات للحجاج " 44. وتقدم إليهم تعليمات من قبيل " لتكن أطروحة ما (مثال: الله موجود ): ما الأطروحة المضادة؟ هل هناك أطروحات أخرى؟ ( مثال: لا يمكن معرفة ما إن كان الله موجودا ) أو " لنفترض أطروحتين متناقضتين (أو مختلفتين فحسب) = هل هناك تركيب ممكن بينهما؟ جد أطروحات أخرى الخ " 44. والهدف المقترح عليهم هو "الاشتغال على الحجج"، والتعليمات المقدمة إليهم هي معارضة الحجة بحجة أخرى، وتغيير حجاج التصميم، وإيجاد حجة " أقوى " 44 الخ.

لا نكاد نرى في هذه التمارين ما سيجعلها تعد لحجاج فلسفي خاص: إنها توحي في المقام الأول ب " معارضات " "antilogies" بروتاغوراس و" خطاباته المزدوجة " التي أخبرنا ديوجين لايريس  Diogène Laërce بأنه " كان الأول الذي أعلن أنه يمكننا أن ننشئ خطابين متضادين تماما حول كل شيء " 45. إن التلميذ الذي قدمنا له كتعليمة " الاعتراض على حجة (من طبيعة اقتصادية أو تقنية مثلا ) بحجة من طبيعة أخرى ( أخلاقية مثلا ) 44 وتوصل إلى أنه لا ينبغي رفع الأجور لكي لا ترتفع كلفة الإنتاج، هل سيكون قد تقدم خطوة في طريق الفلسفة؟ وإذا كان من دعوناه " لإيجاد حجة أقوى " عزم على أن يحول الحجة الأضعف في الحجتين إلى حجة أقوى " 46، مواصلا بذلك فن تحويل الحجج هذا الذي جعل بروتاغوراس من نفسه بطلا فيه، هل سيكون قد استوفى مطالب الفلسفة؟

2.     الحجاج والفلسفة

لا نتعلم الحجاج بطريقة فلسفية من خلال تصنيف الحجج ومعارضة بعضها ببعض بكيفية ميكانيكية. والقول بأن التلاميذ " باعتبارهم تلاميذ " غير قادرين على شيء آخر يعني أنهم قادرون في أحسن الأحوال على متابعة دروس في البلاغة وليس متابعة دروس في الفلسفة. وبذلك يكون من اللازم استخلاص النتائج وإحلال القابلية للتربية على الخطابة للجميع محل " مسلمة القابلية للتربية الفلسفية " للجميع.

ما ينطبق على الحجاج الفلسفي ينطبق على المفهمة وعلى الأشكلة: لا يمكن الاستئناس بها إلا من خلال الاحتكاك بالفلاسفة أي من خلال أولئك الذين غلب عليهم هم التأسيس أكثر من هم الاعتراض. فإذا كان حجاج سقراط حجاجا فلسفيا، فإن الفضل لا يعود في ذلك إلى التشابه الذي قد يحصل أحيانا بينه وبين حجاج معارضيه، وإنما لأنه لا يختزل أبدا في لعبة أو في تقنية، فهو مسكون من كل جوانبه بهم الحقيقة. وكذلك إذا كان الترابط الدقيق للحجج الذي يشكل مسار التأملات الميتافيزيقية نموذجا للحجاج الفلسفي، فلأنه خاضع بكامله لإرادة بناء معرفة حقيقية بكيفية أكيدة.

III.            شروط إمكانية ديدكتيك الفلسفة

ديدكتيك الفلسفة وبيداغوجيا الأهداف

كل ما لا ينطوي على تناقض ممكن من الناحية المنطقية. ومادام الديدكتيك يرمي إلى تسهيل نقل معرفة معينة، فسيكون ديدكتيك الفلسفة مستحيلا لو لم تكن الفلسفة معرفة بأي شكل من الأشكال. وقد رأينا أن الأمر ليس كذلك. والحال أن مفهوم الديدكتيك يدعو إلى أن تكون المعرفة الملقنة ملقنة بحسب النظام النابع من طبيعتها والمحترم لخصوصيتها. وحول هذه النقطة بالذات لا تبدو لنا قضايا الديدكتيكين الحاليين مرضية بما فيه الكفاية: ليس فقط لأن الأهداف التي يحددونها غير خاصة بالفلسفة، ولكن لأن الإجراءات التي يفعلونها لبلوغها تتعارض على نحو خطير أحيانا مع طبيعة الفلسفة. ولا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك مادام الديدكتيك الذي يقترحونه هو تحويل لبيداغوجيا الأهداف. فهذه الأخيرة منشغلة حقا بتحديد مهام دقيقة يكون تحققها قابلا للملاحظة، وتحاول جاهدة بناء تقنيات تجعل إنجازها ممكنا. ولكن حين يتعلق الأمر بالفلسفة أي بميدان لا يشترط أن يكون أي محتوى للمعرفة محددا سلفا، فلا يمكنها سوى أن تختزل الأهداف المنشودة إلى عمليات صورية وتخضعها إلى إجراءات لا تنتمي إلى الفلسفة بكيفية خاصة. لذلك فالإشكال الذي يطرح على ديدكتيك الفلسفة هو نفسه الذي صادفه من قبل تطبيق بيداغوجيا الأهداف على الفلسفة، وهو الذي قاد مارك دوبراي Marc Debray إلى كتابة أن " إدخال بيداغوجيا الأهداف إلى الفلسفة يلقي بظلال من الشك حول الدلالة الفلسفية الخاصة للتعلمات التي يقترحها، ويدفع باتجاه المماثلة مع التقنيات التي هي موضوع دروس الفرنسية " 47. ونستخلص من هذا، من جانبنا، أن الشرط الأول لديدكتيك للفسفة يكمن في القطيعة مع المبادئ التي تتحكم في بيداغوجيا الأهداف.

ديدكتيك الفلسفة والنصوص الفلسفية

لا يعني هذا بالطبع أن على الأستاذ أن يعدل عن تحديد أهدافه، وأن يكتفي " بالطابع العام للغايات التربوية قليلة الفعالية بسبب من عموميتها المفرطة " 48، بل يعني أن هذه الأهداف، إن أردنا لها أن تكون أهدافا خاصة بالفلسفة، لا ينبغي تحديدها بكيفية مستقلة عن المحتوى الفلسفي الذي لا يمكنه، هو بدوره، أن يحدد إلا بداخل الفلسفات، وبداخل إعادة تملكها من قبل كل أستاذ، كما رأينا أعلاه. ويترتب عن هذا أن أي ديدكتيك للفلسفة لا يمكنه أن يوجد إلا في صيغة الجمع. إن ديدكتيك الفلسفة غير ممكن، ولكن عددا كبيرا منها ممكن. وبهذا لن نفصل بكيفية مصطنعة بين " طرائق التفكير " التي يتشبث بها الديدكتيكيون عن المقامات التي تشكلت فيها والتي ستظل ضمنها مسارات حية للفكر بفضل الفعل المشترك للمدرس والتلميذ. فبداخل هذه النصوص التي تشكلت ضمنها المفاهيم، والإشكالات المطروحة، والأطروحات المبنية يتعلم التلميذ أناة المفهوم، ويسثار فيه حس الإشكال، ويتمرس على تأسيس قضاياه.

ديدكتيك الفلسفة: فن أو منهج

إذا كان يتعين على ديدكتيك الفلسفة أن يحدد لنفسه أهدافا فلسفية حقيقية، وإذا لم يكن بإمكانه أن يحققها إلا من خلال تدريب التلميذ على التفلسف من خلال خصوصية هذه النصوص التي يتحقق بداخلها ما هو كوني في الفلسفة، وإذا كان هذا التدريب يفترض هو بدوره خصوصية وساطة العرض الإلقائي، فينبغي بالأولى التفكير فيه كفن لا كمنهج. فهذا الأخير يتميز عن الأول بالقابلية لتصور نظام للوسائل استنادا إلى مبادئ وعرضه بكيفية سابقة على التنفيذ بحيث تكون سلسلة الإجراءات التي ينبغي القيام بها لبلوغ الهدف محددة مسبقا. والحال، وكما يرى مؤلفو تعلم التفلسف، عن حق " أن تعليم الفلسفة، على عكس المواد الأخرى، لا يفرض بتاتا مسارا متدرجا خطيا ملازما له، (... ) فالنظام الوحيد الملازم له يترتب احتمالا عن الفلسفة الشخصية للمدرس " 49. ونستخلص من هذا، من جانبنا، أن ديدكتيكا للفلسفة لا يكون ممكنا إلا إذا أخذ بعين اعتباره الدور الحاسم لوساطة العرض الإلقائي وعدم قابلية تدريس الفلسفة لأن يختزل إلى اكتساب آليات. يتحدد ديدكتيك الفلسفة كفن ويتحدد المدرس كحرفي في المقام الأول لا كتقني.

خلاصة

لقد تساءلنا عما إن كان ديدكتيك الفلسفة ممكنا: وكان ينبغي التأكد من أن مطالب الفلسفة ومطالب الديدكتيك متوافقان مادام الديدكتيك يهدف إلى تسهيل اكتساب المعرفة وفقا لطبيعتها، وبذلك يكون ديدكتيك الفلسفة غير ممكن إلا إذا وفيا لطبيعة الفلسفة، ومتطابقا مع متطلباتها، بمعنى أن يكون هو نفسه فلسفيا. ولا يبدو لنا ان البحوث الحالية التي قمنا بفحصها تستجيب لهذا المطلب، إما لأن المناهج المقترحة ليست فلسفية بكيفية خاصة، وإما لأنها تتعارض صراحة مع طبيعة الفلسفة. وقد يعود هذا الفشل إلى أن المفاهيم التي بناها الديدكتيك في المواد الأخرى، وفي المجالات التي تكون فيها صائبة تم نقلها إلى مجال الفلسفة دون حذر، ودون التأكد من أن الوضع الابستمولوجي لهذه الأخيرة يسمح بمثل هذا النقل. وتظل الانشغالات التي توجد في أصل هذه البحوث واقعية حقا، وأن ديدكتيكا حقيقيا للفلسفة يستوفي شروط إمكانيته التي أعلنا عنها، والتي لم نتمكن سوى من رسم ملامحها، في حاجة إلى بناء.   

André Perrin 

 

 

(1) Michel TOZZI, Patrick BARANGER, Michèle BENOIT et Claude VINCENT, Apprendre à philosopher dans les lycées d'aujourd'hui, CRDP de Montpellier, Hachette éducation, Collection Ressources formation, Série Enjeux du système éducatif 1992 p.23 .
(2) Philippe MEIRIEU, Philosophie et didactique. Préface à Apprendre à philosopher dans les lycées d'aujourd'hui, op. cit., p. 6.
(3) Laurence CORNU et Alain VERGNIOUX, La didactique en questions, CNDP, Hachette éducation, Collection Ressources formation, Série Enjeux du système éducatif, 1992 p. 10.
(4) Ibid. p. 14 .
(5) Cf. ARISTOTE, Métaphysique, A, 1,  981 b 5 : "la marque distinctive du savant, c'est la capacité d'enseigner".
(6) Cf. DESCARTES, Méditations Métaphysiques II & IX : "qu'est-ce qu'une chose qui pense ? C'est-à-dire une chose qui doute, qui conçoit, qui affirme, qui nie, qui veut, qui ne veut pas, qui imagine aussi, et qui sent". 
(7) Cf. PLATON, République VI, 510 b.
(8) ARISTOTE, Météorologiques, B3, 357a   24-28.
(9) Paul ELUARD, L'amour, la poésie in Poèmes, Paris, Gallimard, Le livre de poche p. 99.
(10) Par opposition à la cause formelle qui contient effectivement (en acte) tout ce qui se trouve dans son effet, la cause éminente le contient potentiellement (en puissance) : étant plus parfaite elle est capable de le produire. Le concept d'éminence joue un rôle décisif dans la théologie analogique où il permet d'attribuer à Dieu des noms qui ne soient ni totalement univoques, ni totalement équivoques. Ainsi, dire que Dieu est vie, c'est dire que l'être parfait est autonomie parfaite, source de toute vie, mais non qu'il respire ou digère.
(11) Cf. HEGEL, Leçons sur l'histoire de la philosophie, Paris, Gallimard p.35. Cf. aussiEncyclopédie des sciences philosophiques, §13 Remarque.  
(12) KANT, Critique de la raison pure, Paris, PUF, 5è édition, p. 561.
(13) Jacques MUGLIONI, La physique et l'instruction du philosophe in L'enseignement philosophique 40e année nº 3 Janvier - février 1990 p. 3.
(14) C'est en effet ce qui ressort d'une lecture parallèle du livre VII de la République et du livre VII des Lois comme le signale Sylvie SOLERE-QUEVAL (Jouer pour apprendre et apprendre à jouer inLa philosophie et sa pédagogie, Tome 1 de L'Ecole des philosophes, CRDP Lille, Juin 1991, p. 34).
(15) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 91.
(16) Instructions du 2 septembre 1925, in Léon-Louis GRATELOUP, Notice pédagogique à l'usage du professeur de philosophie, Paris, Hachette, 1986 p. 10.
(17) Michel TOZZI, Petit glossaire in Enseigner la philosophie aujourd'hui, CRAP - Cahiers pédagogiques Séminaire 1989-1990, Université de Montpellier III, p. 64.
(18) Michel TOZZI, Introduction à la problématique d'une didactique de l'apprentissage du philosopher in Didactique de l'apprentissage du philosopher, Université de Montpellier III, Décembre 1992, p. 56.
(19) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 34.
(20) Ibid., p. 35.
(21) Cf. Laurence CORNU et Alain VERGNIOUX, op. cit., p. 51 : " Dans la plupart des didactiques, il est dit aujourd'hui qu'il faut penser l'enseignement en termes de concepts (...) Les concepts permettent de rassembler des savoirs acquis mais dispersés, de rendre cohérentes les conceptions des élèves et de les faire évoluer (...) la démarche didactique vise donc à la conceptualisation avec et par les enfants des domaines du savoir que l'on explore avec eux et que l'on souhaite leur faire acquérir".
(22) Michel TOZZI et al., op. cit., p.33.
(23) Ibid., p. 45.
(24) PLATON, Euthyphron, 14 b.
(25) PLATON, Hippias majeur, 291 d - e.
(26) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 47.
(27) Ibid., p. 44.
(28) Ibid., p. 39.
(29) Ibid., p. 43.
(30) Nous nous inspirons, pour cette analyse, du remarquable commentaire de Jean-Yves Chateau (Collection Lectoguide, Editions Pédagogie moderne, Paris, 1979).
(31) Alain BILLECOQ, L'enseignement de Spinoza in La philosophie et sa pédagogieop. cit., pp. 44-52.

·         (32) SPINOZA, Lettre 56 à Hugo Boxel.

·         (33) Id., Lettre 52.

·         (34) Philippe MEIRIEU, Apprendre... oui, mais comment ?, Paris ESF, 1992, 9ème ed., p. 187.

·         (35) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 48.

·         (36) Ibid., p.52.

·         (37) Gaston BACHELARD, La formation de l'esprit scientifique, Paris, Vrin, 1969, p. 14.

·         (38) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 65.

·         (39Ibid., pp. 122-123.

·         (40) PLATON, Euthydème, 275 d - 278 b. On trouvera cet exemple dans l'article de Bernard DUQUESNE, Les exercices dans L'Enseignement Philosophique in Revue de l'enseignement philosophique, 30ème année, n°5, pp. 14-15.

·         (41) PLATON, Euthyphron, 10 a.

·         (42) Hubert GRENIER, La connaissance philosophique, Paris, Masson et Cie, 1973, p.128.

·         (43) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 54.

·         (44Ibid., p. 57.

·         (45) DIOGENE LAËRCE, Vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, Paris, GF, n°77, Tome II p. 185.

·         (46) Jacqueline de ROMILLY, Les grands sophistes dans l'Athènes de Périclès, Ed. de Fallois, 1988 ; Le livre de poche, Biblio. essais, p. 100.

·         (47) Marc DEBRAY, Pédagogie par objectifs et enseignement de la philosophie, Université de Lille III, 1982, p. 116

·         (48) Michel TOZZI et al., op. cit., p. 29.

·         (49) Ibid., p. 131

·     

**    : ترجمنا لفظ éminence بالمنبع، على عكس ما يوحي به اللفظ في استعماله المعتاد، لأنه يحيل في سياق النص إلى المبادئ او العلل الاولى بالمعنى الأرسطي.

***  : قمنا بترجمة لفظ notion بالمفهوم الأولي كي نميزه عن المفهوم concept الذي يحمل دلالة تقضي بخضوعه لبناء وفق شروط خاصة، وكي نميزه أيضا عن لفظ الموضوعة الرائج في الاستعمال، لأنه لا يحيل إلى فكرة أولية على درجة من الغموض وعدم التحديد.  م

د. الحسن اللحية
د. الحسن اللحية
الحسن اللحية هو أستاذ علوم التربية ومناهج البحث، وكاتب وباحث ومترجم من المغرب. له إسهامات عديدة في المجال التربوي والفكري من خلال مؤلفاته التي تعالج قضايا التعليم والسياسة والثقافة. من بين أبرز أعماله: "مدخل إلى قراءة ماكيافللي"، "نهاية المدرسة"، "المدرسة والمقاولة"، "السياسة والخيال"، وسلسلة "بيداغوجيات"، بالإضافة إلى "معجم التربية والتكوين".... تعكس أعماله رؤيته النقدية والتحليلية للمجتمع والتربية، مما يجعله من الشخصيات المؤثرة في الفكر التربوي العربي.