📁 آخر الأخبار

فلسفة التربية وعلوم التربية

 




                                              الأستاذ عبد العزيز عبقري

                                       مركز التوجيه والتخطيط التربوي

                                            الرباط

تقديــــم:

ابتدأ التفكير في التربية من داخل الفلسفة، فقد كانت التربية موضوعا للفلسفة، وكان كل فيلسوف يضع تصوره للتربية ضمن نسقه الفلسفي الذي يتماشى معه. فقبل أن تكون التربية موضوع علم كانت موضوع التفكير الفلسفي، فمن صميم التفكير الفلسفي في التربية ولدت علوم التربية. من هنا التساؤل عن أية علاقة قائمة بين فلسفة التربية وعلوم التربية؟ هل هناك توافق بينهما أم تعارض؟

ما المقصود ب "فلسفة التربية"؟ وما المقصود ب "علوم التربية"؟

إن فلسفة التربية تجيب عن السؤال: لماذا التربية، أما علوم التربية فهي تجيب عن السؤال  كيف نربي وبأية ومسائل؟

ما المقصود "بفلسفة التربية"؟

تدل "فلسفة التربية" على "إعادة التفكير في الغايات والوسائل التي تعتمدها التربية ومناهج التعليم وعلى الخصوص في المؤسسات التي تجسدها كما يقول "أولفيي روبول1. إن فلسفة التربية، في الأخير تعني إعادة التفكير في القيم التي تؤسس الفعل التربوي، وبعبارة أخرى، إعادة التفكير في كل ما يتعلق بفعل التعلم وبنتائجه، هكذا إذن تصبح فلسفة التربية هي "البحث وطرح المبادئ المؤسسة لشروط وإمكانية التربية، إنها إعادة التفكير بالمعنى الائيتيقي للكلمة"2، هكذا يمكن فهم فلسفة التربية بالدرجة الأولى وبالتالي نفهم اللجوء بشكل عام للفلسفة في مجال التربية كرغبة في فهم الفعل التربوي. هذا ما يجعل علوم التربية نفسها موضوع التفكير الفلسفي لأن التربية قبل أن تكون موضوع علم، فهي من المشاكل والقضايا الأساسية المطروحة على الإنسان قبل أن تكون قضايا تربوية. بهذا المعنى فإن فلسفة التربية ترمي إلى معرفة المذاهب والأنساق الفلسفية الكبرى التي اهتمت بالتربية، وبشكل أوسع نقول أنها تسعى إلى الإلمام بالاتجاهات الكبرى في الفكر التربوي.3

يمكن أن نذهب بعيدا مع غاستون ميالري Mialaret G. الذي يرى أن فلسفة التربية ليست فقط تحليلا الغايات التي تسعى إليها التربية، بل إنها أيضا طرح المشاكل أو الإشكالات، تم أيضا إثارة المعيقات الكامنة في قلب الفعل التربوي (معيقات مرتبطة بالطبيعة والثقافة، الحرية، بعملية الاشتراط الاجتماعي والنفسي....). إن فلسفة التربية هي كذلك البحث في شروط إمكانية التربية، أي أنها التأكيد على عدد معين من المبادئ والتي بدونها يستحيل التحليل بل تستحيل التربية ذاتها – 63 – 4

يمكن إذن تصنيف القيم (المبادئ) التي "تقوم عليها التربية في ثلاث مجموعات كبرى هي:

ç  القيم التي تقوم عليها العملية التعليمية.

ç القيم التي ينبغي تعليمها.

ç  القيم التي تقوم عليها المدرس (قيم المدرسة).

    إن ما يصدق على فلسفة التربية يصدق على فلسفة الفن، فلسفة العلوم، فلسفة التاريخ، الفلسفة السياسية كلها تدخل في قسم (شعبة الفلسفة)، إنها كلها المكون الأساسي للفلسفة. ففيلسوف التربية شأنه شأن فيلسوف العلوم أو فيلسوف السياسة، لا يمارس العلم ولا السياسة رغم أنه يفكر فيهما. نستنتج من هذا أن فلسفة التربية إعادة التفكير في أسس التي تقوم عليها التربية:

خلاصة إن فلسفة التربية تجيب عن السؤال: لماذا نربي؟ بينها علوم التربية تجيب عن السؤال: كيف نربي وبأية وسائل؟

فما هي علوم التربية؟

II – علوم التربية:

من الصعب تمييز علوم التربية عن فلسفة التربية فهما ليستا متعارضتين بل متميزتين الواحدة عن الأخرى، و من جهة أخرى ونحن نتناول بالدرس والتحليل علوم التربية فنحن نواجه شكلا من نوع آخر: هل نحن أمام علم بالمفرد أم علوم بالجمع؟

أ) مفهوم "علوم التربية"

قبل الإجابة عن السؤال: ما المقصود بعلوم التربية، ينبغي أن نثير الملاحظة التالية والمتمثلة أن الحديث عن علوم الطبيعة كالحديث عن علوم الطبيعة أو علوم الإنسان أو علوم التاريخ حيث تدخل في هذا الإطار علوم فرعية متعددة، ما نسميه بالتخصصات (كالفيزياء والبيولوجيا... فيما يخص علوم التربية أي العلوم التي ستساهم في تشكل المعرفة العلمية بشكل متين.

هذا يعني أن هناك علما يشكل النواة الصلبة وعلوم أخرى تنحدر منها. هذه العلوم تساعد العالم على معرفة الطبيعة بشكل أحسن من خلال معرفة بالظواهر الطبيعية المتعددة.

كيف يمكن إذن أن نفهم علوم التربية؟

يجب أن نسجل أنه حتى فترة دوكهايم نهاية القرن 19 كان هناك فقط فقط الحديث عن علم التربية (بالمفرد) وتفسير ذلك مرده إلى أنه لم يكن هناك معروفا غير السيكولوجيا Psychologie   كمبحث وحيد، أي العلم الوحيد الذي بإمكانه تسليط الضوء هي التربية، سواء على مستوى النظرية أو الممارسة، لهذا كان الأمر في مجال التربية مركزا على السيكوبيداغوجيا La psychopédagogie .

مع تطور العلوم الإنسانية، ظهرت علوم أخرى تتناول التربية أيضا على مستوى النظرية والممارسة، من هنا أصبح الحديث عن علوم للتربية بالجمع وهي علوم شكلت تخصصات تدرس انطلاقا من منظورات مختلفة، لكن متكاملة ومنتظمة، شروط وجود واشتغال وتطور للوضعيات والوقائع التربوية. إنها تدرس وضعيات تربوية انطلاقا من كل المنظورات المختلفة الموافقة لحتمياتها، وهي منظورات: فلسفية (غائية)، سياسية، اقتصادية، ديمغرافية، سوسيولوجيا، تقنية، فيزيولوجية، سيكولوجية، وبيداغوجية.

إن هذا التعريف لعلوم التربية يستدعي ملاحظتين هما:

-         أولا: توسع علوم التربية بمدى توسيع مجال التربية والفعل التربوي واشتماله لمجالات متعددة. 5

-         ثانيا: كون فلسفة التربية هي الأخرى جزء من علوم التربية.

هذه المقاربة لتعريف علوم التربية، تتضمن بشكل مضمر فكرة توضيح أن التربية وعلوم التربية يمكن تناولهما انطلاقا من مرجعيات ومقاربات متعددة ، وفي هذا الإطار يمكن اختزال التربية في الفهم المتجدد والمتمثل في العبارة البسيطة والتي تلخص الوضعية الأساسية والمهمة للتربية في:

"المربي في مواجهة الشخص الخاضع للتربية أو المربي في مواجهة الأشخاص الخاضعون والخاضعون للتربية فيما بينهم" هكذا فإن علوم التربية تسعى إلى توضيح هذه العلاقات.

 نتوصل، إذن، إلى أن علوم التربية بالتعريف تشتمل مجموع العلوم التي تتدخل في وضع تصور للتربية وفي إقرار ممارسة لها. إنها العلوم التي تساهم في وضع المشروع التربوي، العلوم التي تطبق نظرياتها على التربية، كما أنها هي التي تنير التربية من خلال تساؤلاتها، مناهجها، مفاهيمها ومن خلال النظريات المرجعية لها.7

تشتمل علوم التربية على العلوم التالية، وهي حسب الأهمية فيما يتعلق بالمشروع والممارسة التربوية:

المستوى الأول:

q    سيكولوجيا التربية؛

q   سوسيولوجيا التربية؛

q   اننوغرافيا التربية؛

q   الديداكتيك؛

q   الديسيمولوجي

المستوى الثاني:

q    تاريخ التربية

q   التربية المقارنة

q   قانون التربية

q   اقتصاد التربية.

 

1) سيكولوجيا التربية : وتضم التخصصات التالية:

Psychanalyse – Psychologie – Psychologie  sociale – Psychosociologie – Psychopédagogie – Science cognitives, génétique, Psychologie scolaire, Psychophysiologie – Psychologie enfantine   – neuro psychologie.

2) سوسيولوجيا التربية : وتضم ما يلي:

Socio pédagogie , politique de l’éducation, sciences des programmes

3) اثنولوجيا التربية: Ethno pédagogie, ethno-methodologie

4) الديداكتيك: تكوين المدرسين (معلمين وأساتذة) – تكنولوجيا التربية وتكنولوجيا التعلم.

5) الدوسيمولوجيا: الدوكسولوجيا، التقويم  التربوي والمدرسي والإشهادي.

6) تاريخ التربية: تاريخ الفكر البيداغوجي، تاريخ المؤسسات التربوية، تاريخ المناهج والتقنيات البيداغوجية. البحث في التربية.

7) قانون التربية:

z    الإدارة المدرسية والجامعية.

z   النظام التربوي.

z   حقوق الطفل.

z   الحقوق المدرسية.

8) اقتصاد التربية:

z   التخطيط في مجال التعليم.

z   تقويم المنظومة التعلمية.

z   علاقة المدرسة بالشغل.

 

 

 

 

III – علاقة فلسفة التربية بعلوم التربية:

هل تتعارض فلسفة التربية مع علوم التربية؟

إنهما يختلفان لكن لا يتعارضان !

لنأخذ نموذجين:

أ) في مجال سيكولوجيا التربية.

تفيدنا السيكولوجيا فيما يتعلق بمشكل أصل المعارف الإنسانية وبالتالي هناك التصور البنائي عند بياجي Piaget والتصور البهافيوري عند سكينر Skinner مثلا  ، وقد نستفيد منهما في توضيح المشكل: هل المعارف فطرية أم مكتسبة (بشكل سريع أم بطيء)؟ فنحن هنا بصدد تقابل بياجي ضد أفلاطون. فمن هو ضمن هذين المنظران على حق في الأخير؟

إن تاريخ التربية الذي تم تدشينه يناصر فيلسوف التربية فيما يتعلق بالفكرتين:

من جهة، فالإنسان هو الذي يخضع للتربية وليس الحيوان. هكذا يكون كانط على حق حين يقول:

"الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يخضع للتربية"  8 بمعنى أن الكائن الإنساني هو الذي تسمح له طبيعته المتميزة بالتربية.

من جهة أخرى، فإن التربية ضرورية ولا مناص للإنسان منها لكي يصبح بالفعل إنسانا. فطيلة مسار التاريخ الطويل، لم يتبين في لحظة معينة أن الكائن الإنساني أصبح راشدا بدون أن يمر بالخضوع للتربية من طرف أناس أخرين، وفي وسط أناس آخرين، كيفما كان شكل تلك التربية، فهي في الأخير إطفاء للطابع الإنساني على الشخص. وهذا ما عبر عنه كانط في قوله ب "أن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بواسطة التربية) .8

ب – يحتاط فلاسفة التربية من الأوهام الناتجة أو المتولدة عن مفهوم "العلمية" لأن هذه الأخيرة ترتبط وتحيل على قيم وإلى مواقف واختيارات أخلاقية أساسية. فبهذا المعنى لا يمكن ممائلة "العقل البيداغوجي" مع "العقل العلمي"  ثم إنه لا ينبغي أن نتناسى أو نتغافل على أن كل علم يقوم على أسس فلسفية، إن لم نقل ميتافزيقية.

إن المربي حين يربي فهو يتعامل مع إنسان، وبالتالي فهو يقيم عنه تصورا مما يجعل "كل بيداغوجيا هي دائما نتاج لفلسفة معينة".

في النهاية، ينبغي أن نعلم، أن التصور الذي نقيمه عن الإنسان، بل عن المجتمع الإنساني الذي هو اجتماع بشري سياسي، فهو الذي يتحكم في السياسة التربوية، بمعنى إن التربية التي نقيمها ويخضع لها الإنسان مرتبطة بنظرتنا للأشياء وللعالم وبالتالي من المستحيل أن نعتقد أنه من الممكن التخلص من الفلسفة؟ فكل من يعتقد أنه قادر على ممارسة التربية بعيدا عن امتلاك تصور فلسفي، أو إنه قادر على التخلص من الفلسفة، وهو يعتقد أنه "بحجة عدم حاجته للأفكار العامة" لا حاجة له للفلسفة، فهو واهم على أنه وصل إلى امتلاك ممارسة تربوية مكتملة ومطلقة فهو يقتل التربية نفسها ويقبرها.

خلاصة:

إذا كانت علوم التربية تتميز عن فلسفة التربية فهي لا تتعارض معها بل إنها تستلهمها. كما أنه لا القول تدخل وجود فيلسوف يحارب علوم التربية، بل إنه يزودها بالمفاهيم الأساسية حتى تتمكن من صياغة النظريات التربوية والتي تستدعي الفلسفة (فلسفة التربية) لإعادة النظر في العقلانية التي تعتمدها.

 

المراجـــــــــــع

1) Olivier Reboul : La philosophie de l’éducation , Paris, PUF. 2004.

2) Gaston Mialaret : Sciences de l’éducation, PUF 2009 .

3) M. Develier : Propos sur les sciences de l’éducation,

4) Science de l’éducation, ouvr.cité, p73.

5) Sciences de l’éducation, op.cité pp 69-70.

6) Id pp.67.68 : la notion de situation éducation.

7) Epid

8) Kant (E), Traité de la pédagogie p98.

9) Ipid

 

 


د. الحسن اللحية
د. الحسن اللحية
الحسن اللحية هو أستاذ علوم التربية ومناهج البحث، وكاتب وباحث ومترجم من المغرب. له إسهامات عديدة في المجال التربوي والفكري من خلال مؤلفاته التي تعالج قضايا التعليم والسياسة والثقافة. من بين أبرز أعماله: "مدخل إلى قراءة ماكيافللي"، "نهاية المدرسة"، "المدرسة والمقاولة"، "السياسة والخيال"، وسلسلة "بيداغوجيات"، بالإضافة إلى "معجم التربية والتكوين".... تعكس أعماله رؤيته النقدية والتحليلية للمجتمع والتربية، مما يجعله من الشخصيات المؤثرة في الفكر التربوي العربي.